درب القداسة

الأب إلياس مرقص Monday August 17, 2020 167

الأب إلياس مرقص

لا شكّ في أنّ الإنسان خُلِقَ للقداسة: “هذه هي إرادة الله: قداستُكم” (١ تس ٤ : ٣). وهذا واضح منذ العهد القديم: “كونوا لي أناسًا مقدَّسين” (خر ٢٢ : ٣١). وهذه غاية رسالة المسيح. ” لأجلهم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحق” (يو ١٧ : ١٩). ولذا نرى الكتاب يؤكّد أنّ تكون سيرتنا “تليق بالقداسة” (تي ٢ : ٣) وأن “تكمّل القداسة بخوف الله” (٢ كو ٧ : ١)، “مقدّمين أعضاءنا عبيدًا للبِرّ للقداسة” (رو ٦ : ١٩) وطالبين أن يثبّت الله قلوبنا “بلا لوم في القداسة” (١تس ٣ : ١٣)، ليكون لنا “ميراث مع جميع القدّيسين” (أع ٢٠ : ٣٢).

للقداسة وجوهٌ كثيرة. فالقدّيس سيرافيم ساروفسكي يقول إنّ القداسة هي “اقتناء الروح القدس”، وأثناسيوس الكبير “أن يصير الإنسان إلهًا”، وبولس الرسول أن “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ”، إلى غيرها من وجوه كقول المسيح: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامل” أو “إن لم تصيروا كالأولاد لن تدخلوا ملكوت السموات” أو “إنّكم نور العالم “. “أنتم ملح الأرض”…

ولكنّنا لا نبغي الآن تعريف القداسة وهي أمرٌ حياتيّ لا نظريّ وهي أيضًا مجّانيّة لا نبلغها إلّا بنعمة الله. غير أنّ هناك مقدّمات لها لا بدّ منها تهيّئ الطريق لاقتبالها. فلنتكلّم على هذه المقدّمات، على “الدرب إلى القداسة”، حتّى إذا ما تبيّنّا معالم ذلك الدرب نقضي حياتنا المسيحيّة على ضوئه بفهمٍ وانتظامٍ، لا عشوائيًّا، كيلا تحرم ثمارها التي هي “حياة أبديّة” (رو ٦ : ٢٢).

حسنٌ أوّلًا أن نتأمّل تلك الثمار كما يصفها الكتاب المقدّس فنشتهيها ونصبو إليها: “وأمّا ثمر الروح فهو محبّة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفّف…” (غل ٥ : ٢٢ – ٢٣). إنّها ثمار حلوة شهيّة. “كلّ ما هو حقّ، كلّ ما هو جميل، كلّ ما هو عادل، كلّ ما هو طاهر، كلّ ما هو سار، كلّ ما هو صيته حسن…ففي هذه افتكروا” (في ٤ : ٨). خارج هذا التطلّع وهذا المسعى لا يبلغ الإنسان إلى سلام عميق ولا يستقرّ استقرارًا كيانيًّا لأنّه لم يحقّق القصد من وجوده وهذا ما يجعل القداسة من أهمّ المواضيع، بل أهمّ المواضيع الحياتيّة وأجدرها بالبحث.

مخطّط بحثنا للدرب إلى القداسة يستند إلى قولَين: القول الأوّل للقدّيس سمعان اللاهوتّي الحديث والثاني لمقطعٍ من صلوات كنيستنا الأرثوذكسيّة.

يقول القدّيس سمعان إنّ القداسة تشترط إيمانًا صحيحًا وغلبةً على الخطيئة ومجّانيّة فعل الروح القدس. أمّا المقطع الطقسيّ فهو الترنيمة السَحَريّة: “الله الربّ ظهر لنا مبارك الاتي باسم الربّ” التي ترتّلها مع ثلاث آيات من المزامير وتلتقي مع قول القدّيس سمعان. تشير الآية الأولى إلى الإيمان: “اعترفوا للربّ وادعوا باسمه القدّوس”، والثانية إلى الغلبة على الخطيئة: “كلّ الأمم أحاطوا بي وباسم الربّ قهرتهم”، والثالثة إلى مجّانيّة فعل الروح القدس: “من قِبَل الربّ كانت هذه وهي عجيبة في أعيننا”… وكأنّ الكنيسة تريد أن تذكّرنا صباح كلّ يوم بغاية مجيء الربّ إلينا وبمقوّمات دربنا إليه:

أوّلًا: إيمان صحيح

أي رؤية صحيحة لمعنى وجودنا وللحياة (يعرّف القدّيس ذياذوخس الإيمان بأنّه فكرة واضحة عن الله):

– أن نؤمن بالإله الواحد الآب الضابط الكلّ، وبالله الخالق الذي “السماء والأرض مملوءتان من مجده”، شاعرين بحضوره في كلّ مكان[1].

– أن نؤمن بالآب السماويّ الذي يعتني بنا (أنظروا طيور السماء…يا قليلي الإيمان” وأن نصلّي الصلاة الربّيّة “أبانا…” بكلّ معناها[2].

– أن نحسّ بقدسيّة الله وحلاوة التسبيح له مع الملائكة: “قدّوسٌ قدّوسٌ قدّوسٌ ربّ الصباؤوت”[3].

أن نفقه قداسة الله وكونه محبّة في تدبيره لخليقته أي إنّ الإنسان مخلوقٌ على صورة الله الذي وهبه كلّ شيء، وأنّ الربّ يسوع بآلامه وموته على الصليب وقيامته خلّصه من الخطيئة والموت، وأعاده إلى شركة الله وأجلسه عن يمين الآب[4]، وأرسل روحه القدّوس ليرشده ويقدّسه ويحييه حياةً أبديّة[5].

هذا وإنّ دستور الإيمان عرضٌ رائع لكلّ إيماننا (إذ ما تلوناه بفهم وحكمة: “الأبواب الأبواب بحكمةٍ لنصغ”).

كذلك تكرار رسم الصليب فهو بمثابة التزامٍ وتبنٍّ مطرَد وترسيخ لإيماننا، فنتمثّله ونعيشه كلّما رسمنا إشارة الصليب.

أن تؤمن بالله يعني أيضًا أن “نُؤمّن” له ونتّكل عليه ونسلّم حياتنا إليه. في نهاية القدّاس الذي هو تتويجٌ لكلّ صلاتنا نرتّل: “قد وجدنا الإيمان الحقّ” (الذي هو الشرط الأوّل للقداسة).

 ثانيًا: الغلبة على الخطيئة:

“كلّ الأممم أحاطوا بي وباسم الربّ قهرتهم”. الإنسان منذ آدم مجبولٌ بالخطيئة. “بالخطايا ولدتني أمّي”. أمّا جذور الخطيئة فهي الأهواء. فللتغلّب على الخطيئة يجب التحرّر من الأهواء. الأهواء الرئيسة كما هو معروفٌ هي: الشراهة، الزنى، الغضب، محبّة المال، الكسل، الضجر، الغرور، الكبرياء، ولها فروعٌ كثيرة.

الأهواء تعكّرالإنسان فتفقده السلام، وتأسره فتسلب حرّيّته، وتقلقه وتعذّبه[6]. الأهواء لا تشبع، ووراء مظهر التعطّش إلى ملءٍ تخفي روح العدم. هذا هو إبليس. عِلمًا بأنّ الأهواء تستبعد العقل فيصير خادمًا لها[7].

سبب الأهواء – منذ آدم – محبّة الذات (عوضًا من محبّة الله). أمّا طريق التحرّر منها فهو بالعكس – وراء المسيح – إنكار الذات – (“من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه”). إنّ مفتاح طريق التحرّر وسرّ النجاح فيه هو التخلّي عن محبّة الذات (Philatia). فهي حسب القدّيس مكسيموس المعترف أصل الأهواء كلّها بلا استثناء.

من مقوّمات الطريق:

أوّلًا إيمان نخضع نحن له، ولا يخضع هو لنا (كثيرًا ما يتكيّف إيمان المرء بأهوائه وحالاته النفسيّة…).

ثمّ إيمان أعرف به أنّي لست وحدي في جهادي، لست مغلوبًا إلى الأبد (بل أذكر الله والقدّيسين).

التوبة: الرجوع إلى النفس لمعرفة الذات، النزول إلى الذات حتّى نكتشف في العمق “جراثيم الخطيئة” فينا، الاعتراف والاغتسال بالدموع…

من وسائل التوبة: النسك الجسديّ: الصوم، السجدات، تعب الجسد في العمل… ثمّ الصبر في الأوجاع والمحن، ثمّ روح الخدمة والمحبّة. خلاصنا يمرّ بالقريب كما يقول الآباء[8]. كلّ ذلك وغيره بإرشاد أبٍ روحيّ… عدا مطالعة الكتاب المقدّس ومؤلّفات الآباء… ومداومة الصلاة لاسم يسوع: “باسم الربّ قهرتم”.

 

   ثالثًا: اقتبال روح الله فينا:

“من قِبل الربّ كانت هذه وهي عجيبةٌ في أعيننا”.

جهادنا كلّه لا يؤدّي إلى شيءٍ بدون نعمة الله. بعد جهادنا المرير نبلغ إلى معرفة أنّنا لا شيء. كلّ خيرٍ هو من الله. الروح هو الذي يحيي. “إن لم يبنِ الربّ البيت باطلًا يتعب البنّاؤون” (مز ١٢٦ : ١). نحن صغار[9]… ولكن لنا أبٌ سماويّ نلتجئ إليه، نرجو منه كلّ شيء، نؤمن بعجائبه[10]… لتكن ياربّ رحمتك علينا كمثل اتّكالنا عليك (مز ٣٢ : ٢٢). الله عطاء: “خذوا كلوا…”.

من هنا أهمّيّة نوعيّة صلاتنا: بإنسحاقٍ كبيرٍ وتسليمٍ كاملٍ لمشيئة الله وانفتاحٍ كلّيّ لتقبّل النعمة المجّانيّة والإيمان بمفعول الصلاة: “كلّ ما تطلبونه حين تصلّون، فآمنوا بأن تنالوه فيكون لكم” (مر ١١ : ٢٤). يسكن الله فينا بمثل هذه الصلاة. “هلمّ واسكن فينا…”.

ثمّ لا ننسى أنّ الله يحبّنا. “هو أحبّنا أوّلًا” (١ يو ٤ : ٨). يقول كتاب المعزّي إنّ الروح القدس “عشقٌ” و”إنّ أبناء البراري يتطايرون بالعشق الإلهيّ”. وقد قيل إنّ ملكوت الله هو ذلك الحبّ… هذا يفترض طبعًا أن تلازم صلاتنا الطاعةُ لوصاياه: “دع قربانك على المذبح …” (متّى ٥ : ٢٤). كتبنا الكنسيّة تتحدّث عن “قيود العقر”، أي عدم الخصب والإثمار بالعطاء والمحبّة… هذه قيود تغلق على المرء فتحجب عنه نعمة الله بينما حفظ الوصايا ينقّينا بصورة سرّيّة ويؤهّلنا لاقتبال الله.

ولكن على كلّ حال تبقى النعمة مجّانيّة. الروح ينسكب متى شاء وإذا شاء وكيف يشاء. علينا فقط أن نبقى أمناء في جهادنا، مخلصين وصبورين، تاركين الأمر له. “إكشف طريقك للربّ واتّكل عليه وهو يُجري” (مز ٣٦ : ٥).

وجديرٌ بالذكر أنّ القدّاس الإلهيّ، الذي هو قمّة حياتنا، ليس سوى “سرّ شكر”…

أخيرًا إنّ الثلاث المراحل (التي ليست هي بالضرورة “مراحل” منفصلة) تبقى تحت علامةٍ واحدة هي مجيء الربّ يسوع. ولذا نكرّر الترنيمة الأولى مثل “لازمة” للثلاث الآيات: “الله الربّ ظهر لنا مباركٌ الآتي باسم الربّ”. مسعانا مبنيّ على ظهوره السابق بالتجسّد وبمجيئه الآتي معًا، بل على حضوره الدائم واستقباله بفرحٍ وتبريك: “مبارك الآتي”. “لقد وعدنا وعدًا صادقًا بأنّه يكون معنا إلى منتهى الدهر، الوعد الذي نحن المؤمنين نعتصم به كمرسى لرجائنا فنبتهج متهلّلين”. صلاة الكنيسة كلّها متّجهة نحو استقبال الربّ يسوع بشوقٍ وحنين منذ صلاة نصف اللّيل: “ها هوذا الختن يأتي في نصف الليل…” وحتّى نهاية القدّاس الإلهيّ:”لقد نظرنا النور الحقيقيّ وأخذنا الروح السماويّ…”…وبه نتقدّس…

 

 

المرجع : مجلّة النور، العدد الرابع، ١٩٩٣.

 

[1]    حين التبخير في الخدم الكنسيّة يبخّر الكاهن جهات الكون الأربع بالإضافة إلى الأيقونات وجميع الأشخاص الحاضرين. إنّه تبخير موجّه إلى الله الحاضر فيهم وفي الكون.

[2]    أصبح معروفًا أنّ اللّفظة التي استعملها يسوع باللّغة الآراميّة حين علّم تلاميذه الصلاة الربّيّة هي اللفظة التي يقولها الطفل الصغير لأبيه:”أبّا”… يا بابا…

[3]    سُئلَت مرّة أختٌ لنا من الرعيل الرهبانيّ الأوّل ما هو أجمل وقتٍ في القدّاس الإلهيّ فأجابت: حين نرتل “قدّوس الله..” (بعد الإعلان “لأنّك قدّوسٌ أنت يا إلهنا…”).

[4]     “صلاة يسوع” التي تلخّص تدبير الله نحونا (“يا ربّي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”) تساعدنا على الدخول في سرّ الخلاص وسرّ بنوّتنا لله (وراء ابن الله الجالس عن يمين الآب).

[5]    من هنا الأهمّيّة القصوى لانفتاحنا الكيانيّ للروح القدس ليسكن فينا ويطهّرنا من كلّ دنسٍ ويخلّص نفوسنا.

[6]   تدعو الكنيسة العذراء في أحد الأناشيد “يا منجيّة من سعير الآلام” (أي الأهواء).

[7]   ننصح جدًّا بقراءة ما يتعلّق بالأهواء (طبيعتها، وصفها، فعلها، كيفيّة مجاهدتها والتحرّر منها…) في كتاب “أصول الحياة الروحيّة” ص١٢١ إلى ١٧٩، منشورات النور، ١٩٧١.

 

[8]  صار أحدهم قدّيسًا لأنّه لم يفضّل مرّةً مصلحته على مصلحة الآخرين.

         9 “أنا صغير وحقير” يقول داود النبيّ (مز ١١٨ : ١٤١)، “أنا دودة لا إنسان” (مز٢١ : ٦).

         [10] المزمور ٧٧ : ٣٢ – ٣٣ ” لم يؤمنوا بعجائبه ففنيت أيّامهم بالباطل وسنوهم بالبلبال”.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share