سؤال وجواب عن الحركة

مرسيل مرقص Monday August 17, 2020 292

 مرسيل مرقص

في الخطاب الذي ألقاه الأخ مرسيل مرقص، لمناسبة الذكرى الحادية عشرة لتأسيس الحركة في اللاذقيّة، أجاب عن بعض الاسئلة التي تطرح عادة عن الحركة، فائدتها ومبررات وجودها، قال:

تكلّمنا كثيرًا خلال الإحدى عشر سنة الماضية والآن ونحن على عتبة السنة الثانية عشرة كأنّي بكم تقولون: ما حاجتنا بعد إلى كلام؟ كأنّي بكم تفكّرون أنّ هذه الحركة، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة باتت أمرًا قديمًا، منتهيًا، طواه الدهر فأضحى هذا العيد تقليدًا لا معنى له سوى الذكرى. لكنّكم أيّها السادة، بتفكيركم هذا، تنظرون إلى الحركة كأنّها غريبة عنكم. ربّما كانت نظرتكم هذه غير مقصودة ولكن مهما يكن من أمر فإنّ  هذا الموقف أضرّ كثيرًا بالحركة ولربّما كان الضرر الأكبر الذي أصاب الحركة منذ تأسيسها حتّى اليوم.

– فلنتساءل إذًا: ماذا صنعت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة خلال أحد عشر عامًا وهل قامت بهذه الحركة فئة ضئيلة معيّنة لا تتكلّم باسم الكنيسة؟ وهل أنّ وجود الحركة واستمرارها ما يزال له مبرّر في الظروف الزمنيّة الاجتماعيّة؟ إنّها نظرة عامّة شاملة تتناول الماضي والمستقبل، ولن تكون مفيدة نافعة إلّا إذا تبنَّاها كلّ واحد منّا وتعمّق فيها، فالمجال ضيّق لا يسمح لنا سوى بالإشارة سريعًا إلى نقاط البحث الرئيسة.

أوّلًا: ماذا صنعت الحركة خلال أحد عشر عامًا؟

يبدو لأوّل وهلة أنّها لم تعمل الشيء الكثير، لكن بالحقيقة عملها لا يقدّر. تعلمون أنّ الحركة آلت على نفسها في البدء أن تحصر عملها في النطاق الروحيّ البحت.

لا سياسة ولا طائفيّة ولا أوقاف ولا إدارة بل الحياة الروحيّة الداخليّة لأنّ الحياة الروحيّة هي الجوهر الصحيح الذي يؤدّي بصورة طبيعيّة إلى حسن السياسة. التي هي سياسة الله على حدّ قول الأمين العامّ للحركة وإلى حسن تنظيم الأوقاف والإدارة، بينما إدارة الاوقاف لا تؤدّي حتمًا إلى خلق حياة روحيّة مقدّسة. والسؤال هو: ماذا صنعت الحركة في الحقل الروحيّ وهل نجحت فيه؟ اتّبعت الحركة الوسائل الروحيّة لتعرّف أعضاءها إلى الله والصلاة واستخدمت التعليم في مدارس الأحد وفي المدارس الأرثوذكسيّة وفي فرق ضمت مختلف العناصر من متزوّجين ومتزوّجات وعمّال وتلاميذ وتلميذات، كما استخدمت مطالعة الكتاب المقدّس والمناولات والقداديس الإلهيّة والصلوات، والرياضات الروحيّة والكتب والمجلّات والمنشورات الدينيّة والجوقات الكنسيّة والجولات التبشيريّة. لكن ماذا نتج من كلّ ذلك؟ هل امتلأت الأديرة رهبانًا وراهبات؟ هل أقبل الحركيّون على الدخول في الإكليروس؟ هل زاد عدد القدّيسين في الكنيسة؟ كلّا لم نشهد امتلاء الأديرة بالرهبان والراهبات حتّى الآن ولم يُقبل الشباب على الإكليروس ولم يتكاثر القدّيسون ولكنّ فضل الحركة في أنّها وجدت ووجّهت أعضاءها إلى الله. عرّفتهم أنّ هناك حياة روحيّة سامية تفيض بالجمال والغبطة، أنّ هناك ما يسمّونه قداسة واتّحادًا مع الربّ لا يوصف. عرّفت ذلك إلى شباب وشابات لم يكن ليعرفوه لولاها. الحركة عرّفت الأرثوذكسيّة وروعة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة الخالدة إلى شباب نشأوا خارج الأرثوذكسيّة ولم يكونوا ليحلموا بوجودها. عزّزت الحركة بوجودها ثقة الناس بالأرثوذكسيّة وقامت سدًّا قويًّا دون تسرّب أبنائها إلى غير حظيرة، وساعدت بجرأتها وكشفها نقاط الضعف في الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس على نموّ الوعي وتقبّل الناس النهضة المرتقبة. وسعت جاهدة لتقدّم للكنسية عمّالًا مؤمنين برسالتها متفهّمين أعمق حاجات الطائفة ومؤهّلين بذلك لخدمة مؤسّساتها والنهضة بها. نعم لم تنجح الحركة نجاحًا كاملًا بعد. لكنّ المهمّ أنّ الباب قد فتح وأنّه ينبغي أن ندخل منه. لقد فتح الباب والحركة لم تفشل: إنّ راهبًا واحدًا ترهبن بفضل الحركة كافٍ لتبرير وجودها والراهب الذي بيننا وهو أمين سرّنا باكورة نجاح الحركة. وفي الحركة أيضًا من دخلوا الإكليروس بوحيها أو تثبّتوا فيه بفضلها. وإنّ في الحركة ولا شكّ شبابًا وشابات قدّيسين يعيشون في الخفاء، ولكن نستطيع نحن أن نقول عنهم ذلك. نعم لقد فتح الباب وما بقي إلّا أن ندخل فيه. وها هي الكلّيّة الأرثوذكسيّة الوطنيّة باللاذقيّة التي ساهمت الحركة في إنشائها وخلقها بالقدر الذي تعرفونه، تجسّم ما حقّقته الحركة حتّى اليوم: إنّها تجسّم فتح الباب للمشاريع المهمّة العديدة كمشروع كلّيّة البنات باللاذقيّة الذي سيتحقق قريبًا إن شاء الله على يد صاحب السيادة مطراننا الجليل وأبناء الكنيسة الغيورين المفاضلين الكرام وسائر الشعب من دون استثناء. الكلّيّة الأرثوذكسيّة تجسّم الإمكانيّة الهائلة التي أوجدتها الحركة للاستمرار في نواحي النهضة كافّة لكي تهبّ الروح وتنفخ فيها وفي كلّ مكان[1].

أمّا السؤال الثاني: فهل قامت بالحركة حتّى الآن فئة ضئيلة معيّنة لا تتكلّم باسم الكنيسة؟ وهل يجب أن تقوم بالحركة فئة ضئيلة أم جميع أبناء الكنيسة بكامل قواها؟

قامت بالحركة فئة ضئيلة ومعيّنة من حيث العدد ولا شكّ. وهذا أمر طبيعيّ إذ لا يمكن عمليًّا لسائر أبناء الكنيسة الاشتراك في تأسيس حركة في أوّل عهدها، لكنّها لم تكن فئة خارجة عن الكنيسة ولم تكن تتكلّم بغير اسم الكنيسة أو تعمل لغير إتمام رسالة الكنيسة. فالطرس البطريركيّ الكريم اعترف بالحركة كهيئة دينيّة تعمل ضمن الكنيسة ولخدمة الكنيسة، وأصحاب السيادة المطارنة باركوا الحركة في معظم الأبرشيّات، ولم يبخلوا عليها بتشجيع ومؤازرة لا سيّما في أبرشيّتنا اللاذقيّة التي توصلت بفضل سيادة مطراننا الجليل إلى أكثر ما يمكن أن تصل إليه علاقات الرعاية والتعاون بين الحركة والرئاسة الروحيّة. وأبناء الكنيسة من جهتهم أظهروا في مناسبات عديدة محبّتهم للحركة وثقتهم بإخلاصها واستعدادهم لمساندتها، وإن كان قد بدا في بعض الأحيان شيء من الفتور فلم يحسن بعض الأفراد النظر إلى الحركة كحركة روحيّة مجرّدة بل كهيئة زمنيّة لها مطامع شخصيّة فوقفوا منها موقف تباعد وعناد يُؤسف له، فقد يجدر بنا أن نوجّه هنا إلى من وقف من الحركة هذا الموقف العتاب الذي ذكرناه في مطلع هذه الكلمة، لأنّ الحركة وأعضاء الحركة لم يقصدوا يومًا أن يخطئوا ضدّ المحبة ويسيئوا إلى أيّ كان، وقد حرصوا دومًا على أن يتجنّبوا السلبيّة ويكونوا إيجابيّين، بينما لم يعامَلوا بالمعاملة ذاتها. ولكن هذه أمور من الطبيعيّ أن تحدث وتكرّر في العرف البشريّ، وهي لا تستطيع أن تغيّر شيئًا من هذه الحقيقة الواقعيّة، وهي أنّ الحركة قد انبثقت عن الكنيسة، عنكم وعنّا جميعًا، أَردنا أو لم نرد، وهي تسعى لتتمّ الإصلاح الذي يصبو إليه جميع المؤمنين. فهذه أمور لا تكفي لإحداث شقّ اصطناعيّ بين أبناء الجسم الواحد ولا تكفي لتوقف الحركة عن العمل ولا يظنّ أحد أنّ أحدًا سيتوقّف نهائيًّا عن العمل في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ما دامت الحركة حركة بإذن الله.

هل من حاجة بعد ذلك إلى أن نتساءل ما إذا كان يجب أن يشترك في النهضة الحركيّة جميع أبناء الكنيسة بكامل قواها؟ إنّها نهضة الجميع. نهضة كنيسة المسيح. لا اختصاص في الحياة الكنسيّة الحقّ. الكنيسة مقدّسة فيجب أن يكون جميع أبنائها قدّيسين. غير أنّ هناك تجربة التفرقة بيننا مع الأسف على الدوام وأمثلة التفرقة بيننا غنيّة عن البيان. فكلّ كلمة تزيد في التفرقة تُسيء إلى هذه الكنيسة أعظم الإساءة. وهي تطعن مرّة أخرى الذي قال: «بهذا يعرف الجميع انّكم تلاميذي إذا كان لكم حبّ بعضًا لبعض.. ». وحتّى لا أطيل عليكم هذا الكلام فإنّ الحاجة إلى اشتراك الجميع بروح واحدة في نهضة الكنيسة تظهر جليًّا في الجواب عن السؤال الثالث والأخير.

   السؤال الثالث: هل أنّ وجود الحركة واستمرارها ما يزال له مبرّراته في الظروف الزمنيّة الاجتماعيّة وكيف نوفّق بين مبرّرات بقاء الحركة وضرورات بناء الأمّة بناءً سليمًا موحّدًا؟

نعم إنّ بقاء الحركة واستمرارها ما تزال له مبرّراته القويّة في الظروف الزمنيّة والاجتماعيّة. الروح هي التي تُحيي المادّة والعالم يجبل اليوم ويعجن بالمادّة. أفلا ينبغي أن تضع الكنيسة خميرتها، خميرة الروح في هذه العجينة لكي يكون للعالم بها خلاص؟ كنيستنا الآن باقية والحمد لله. وإن كانت مظاهر حياتنا الكنسيّة، تقاليدنا وأعيادنا وطقوسنا، قد أضحت سطحيّة متحجّرة، إلّا انّه يمكن الآن أن تعود إلى أصلها فيسري الإيمان فيها وتسري الحياة والبهجة والقداسة فيها من جديد، لكن ماذا إذا اندثرت وامّحت حتّى مظاهرنا ومتحجّراتنا هذه؟ ومن يكفل ويضمن لنا بقاء تقاليدنا وطقوسنا المتحجّرة بعد مائتي أو ثلاثماية سنة إذا لم نرد أن نقضي على تحجّرها منذ الآن. إذا لم نشترك جميعًا في إحياء أعيادنا وعاداتنا وأخلاقنا ومبادئنا الأساسيّة. إذا تركنا بكلّ اطمئنان فئة ضئيلة معدودة تذهب إلى الكنيسة وتتناول وتحاول أن تعيش التعاليم المسيحيّة دون الأكثريّة العظمى من المؤمنين.

نعم إنّ استمرار الحركة ما تزال له مبرّراته في الظروف الزمنيّة الحاضرة. بلادنا اليوم بصورة خاصّة في طور تأسيس وبناء. هي جادّة في بناء أمّة قويّة راقية فينبغي أن تساهم جميع العناصر وتشترك في هذا البناء.

كلّ له خصائصه ومميّزاته ينبغي أن يقدّمها ويصهرها منسجمة مع ميزات الآخرين وحسناتهم. وبقدر ما تزداد الخصائص في بناء أمّة ويتوثّق الانسجام بينها بقدر ما تكون الأمّة غنيّة راقية. فعلينا إذًا أن نضع خصائصنا في البوتقة العامّة، حتّى لا تخلو من خصائصنا وحتّى يزداد رقي الأمّة.

ولكن ما هي خصائصنا أيّها السادة؟ أهي تأليفنا كتلة طائفيّة مغلقة تجاه بقيّة الكتل الطائفيّة تطالب بحقوق سياسيّة وزمنيّة معيّنة؟ أهي انكماش وانعزال وحذر وإحجام؟ أهي اعتزاز أعمى وتمسّك سطحيّ بصفات اسميّة ظاهريّة لا حياة فيها ولا روح؟ أهي أوضاع قديمة متحجّرة فقدت معنى وجودها؟ كلّا يا سادتي لم تكن هذه يومًا خصائص المسيحيّة وكياننا على مثل هذه الصورة هو كيان مشوّه مزيّف. ولأنّه كيان مزيّف فهو كيان ضعيف لا متانة له ولا أصل يشعر معه الإنسان بمركّب نقص يلازم كلّ من يحيا خارجًا عن جوهره بعيدًا عن قاعدته. الكيان الأصليّ راسخ على قواعده متجلّ في جوهره يمتاز بالقوّة والصفاء والثبات وليس أبشع من أن يتمسّك المرء بكيان مشوّه لا يعبّر عن حقيقته ولا عن قيمته الوحيدة التي لا تستبدل بشيء. وليس أجبن من أن يحتمي المرء وراء مظهر سطحيّ خارجيّ ليوفّر على نفسه مشقّة النزول إلى أعماق نفسه وكيانه فينتشل الكنوز الفريدة.

لن نكون نحن يّها السادة، لن نكون يومًا نحن، تجاه أنفسنا وتجاه الغير بكلّ قوّة وصراحة وإيجابيّة إلّا إذا كنّا وعشنا مسيحيّين حقيقيّين غير تاركين أيّ تعليم من تعاليم المسيحيّة. لن نكون يومًا نحن ولن نكون أيّ شيء آخر ذا قيمة وثمن إلَّا إذا نزلنا إلى أعماق الكنيسة ونشلنا منها كنوز المسيحيّة الرائعة التي لا تُقدّر بثمن وتحلّينا بها، كنوز المسيحيّة التي هي منافية لكلّ تكتّل مغلق وانكماش وتحجّر وانعزال. بل هي مسالمة غير محدودة وتفتّح دائم وإيجابيّة بنّاءة ومحبّة غير مشروطة، وتواضع لا قرارة له. لا تطلب حقوقًا خاصّة ومنافع سياسيّة أو زمنيّة ولا تطلب أجرًا. كنوز المسيحيّة التي لمجرّد ما تطلب مقابلًا أو تضع حدًّا لتضحيتها تنكر نفسها. كنوز المسيحيّة التي تأسر النفوس والقلوب عندما لا تطلب أن تأسرها بل أن تخدمها وتحبّها. يخطئ حساب الذين يطلبون أجرًا ويفقدون مسيحيّتهم ولا ينالون بالنتيجة شيئًا. لن نكون يومًا نحن أيّها السادة إلّا إذا تملكّنا هذه الكنوز واستثمرناها ولم نتخلّ عنها فنشترك حينئذٍ في بناء المجتمع بهذه الخصائص الحقيقيّة الأصيلة وتتوفّر لنا القوّة الراسخة والفاعليّة البنّاءة والقابليّة القصوى للانسجام التلقائيّ السليم ولتأدية رسالتنا في المجتمع.

نعم سادتي إنّ بقاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة واستمرارها ما تزال له مبرّراته في الظروف الزمنيّة الاجتماعيّة وفي كلّ الظروف، وليست هذه مبرّرات فحسب بل شروط حياة ووجود. وهذه المبرّرات كما ترون تتوفّق مع ضرورات بناء الأمّة بناءً سليمًا منسجمًا بل هي شروط اشتراكنا كأبناء صادقين مخلصين في بناء هذه الأمّة بناءً سليمًا منسجمًا، ولن نكون نحن تجاه أنفسنا وتجاه الغير إلّا بتحقيق أهداف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي هي أهداف الكنيسة.

وأخيرًا سيداتي، سادتي، وقد انتهيت من الإجابة عن الاسئلة الثلاثة لم أكن أبتغي اليأس من أيّ شيء قلته. فالمسيحيّة ديانة الأمل والرجاء. لقد زاد رأس مالنا بعد هذه السنين الإحدى عشرة زادت خبرتنا وعرفنا كيف نجابه الصعوبات ونقاوم الاهواء ونتغلّب عليها بإذن الله. عرفنا كيف نيأس وكيف نتغلّب على اليأس لأنّنا عرفنا أنّه ينبغي أن نتابع المسير مهما كلّف الأمر، عرفنا يقينًا أنّه ينبغي متابعة المسير من دون توقّف لأنّها قضيّة موت أو حياة.

لقد تكلّمنا على فتح الباب. أنا هو الباب قال الربّ فلا ننسينّ لحظة أنّنا بدونه لا نستطيع أن نفعل شيئًا والسلام.

 

المرجع: مجلّة النور، العدد الثامن، آبن ١٩٥٤.

 

[1] عند إلقاء هذا الخطاب لم تكن قد تأسّست في بيروت كليّتا البشارة ومار إلياس اللتين عهد بإدارة كلّ منهما إلى مدير حركيّ.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share