الأب بولس وهبه
»لم أرَ اللَّه فَرِحًا مثلما رأيته يوم انتقال أبينا إلياس إليه«.
شعرت بهذا في اللحظة التي علمت فيها أنّ آبانا إلياس رقد بالجسد، وما انفكّت هذه العبارة تتردّد في وجداني حتّى كتابة هذه السطور، شهرين بعد تلك اللحظة. وبالعودة إليها، أحسست عندها أنّ اللَّه يخاطبه، فيما هو فاتح ذراعيه ليضمّه إليه: »كنت أتشارك مع الناس في سكناك بيننا، وها أنت الآن معي في بيتي أدفق عليك كلّ ما عندي من حنان وحبّ فيما أنت متربّع على عرش البنوّة التي لم يستحقّها الكثيرون«.
لكنّني شعرت، أيضًا، في تلك اللحظة، بإحساس بعث الكثير من الراحة التي بدت غريبة في البدء: لم أبكه إلاّ دموعًا معدودات، ليتسرّب إليّ شعور أشبه بالخَدَر، شعور بالغبطة الناجمة عن اليقين بأنّ أبانا إلياس ما زال حاضرًا، لا بل حاضر بقوّة في حياتي وفي حياة المؤمنين والكنيسة. وتأكّد هذا الشعور عندما كنت بالقرب من جثمانه الطاهر، في أثناء صلاة الجنازة، وبعدها عندما حُمِل إلى مثوى جسده الأخير. طيلة الصلاة، كنت أنظر إليه وقد بدا نائمًا (والتعبير ليسوع الذي استخدمه لوصف رقاد ألعازر) في إغفاءة، فقط لا غير. وعندما كان يُنقل من الكنيسة، لم أودّعه لأنّني لم أشعر بأنّه يغادرني / يغادرنا. ذهب، وما زال حاضرًا…
والآن، بماذا أحسّ؟ بالضبط الشعور ذاته. أبونا إلياس ما زال موجودًا بكثافة لم تتضاءل. بحضور لم يخبُ عندما كان جسده نابضًا (أي بالتعبير المألوف: عندما كان ما يزال »حيًّا«، وهو ما يزال). لم أتمكّن من رؤيته دائمًا بالوتيرة التي كنت أتمنّاها، لكنّني كنت أستجير به دائمًا، طالبًا صلاته عن بعد (من دون التكلّم معه عبر الهاتف بالضرورة، فقط بواسطة الصلاة) ضارعًا: بصلاة »أبونا إلياس«، ربّي يسوع ارحمني (أو سامحني). والآن، سأظلّ أردّد الصلاة ذاتها، لأنّ شفاعته، التي ظلّلتني في أثناء حياته ستظلّ تظلّلني في أثناء غيابه الجسديّ. أنا أشعر، بالضبط، أنّ أبانا إلياس ما يزال حاضرًا في حياتي، نقطة على السطر.
أستطيع الجهر، بكلّ بساطة، أنّ لأبينا إلياس في حياتي حضورًا وطعمًا وتأثيرًا فاق أيّ إنسان آخر. كان وما يزال له التأثير الأكبر في الكثير الكثير ممّا قاله، وفي الكثير الكثير ممّا أخذته منه من دون أن يقول. كان مثاله هو المعلّم الأكبر لي. اختزنت كلماته وحركاته وحنانه ومرحه وبركاته في ثنايا وجداني وقلبي وعقلي وكياني، بحيث كان لي المعلّم الأكبر والبلسم الأنجع. لا أستطيع وصف ذلك بكلمات. علّمني أنّ الحبّ لا أفق له أو حدود. أنّ الحبّ لا يعرف الإدانة، أنّ الحبّ هو كلمة السرّ. أحبّني كما أنا، ولم »يتفلسف« عليّ أو يدينني مرّة! في إحدى المرّات، بعد اعتراف مرّ، انتظرت ماذا سيقول لي، وعندما فتح فاه قال: »كلّنا خطأة، أطلب إليك أن تذكرني في صلاتك« انتهى. أحسست أنّني قد رُحمت وأنّ آثامي قد سقطت عنّي. قبلني كما أنا حتّى في أحلك أيّامي، وكثيرًا ما كان يقول لي: »أنت تعزيتي«. وعندما رأيته لآخر مرّة محمولاً على السرير من المستشفى إلى الدير، قال لي بالفرنسيّة: »شكرًا على كلّ شيء«. هو يشكرني أنا؟ وأنا ماذا يجب أن أقول؟
أخفى تواضعه بالمرح، وزاد في إخفائه بأنّه كان يطلب إليّ أن أجيب عن أسئلة الحضور، أو أن أتكلّم إلى مائدة الطعام. أتكلّم بحضرته؟ نعم، لقد تكلّمت بحضرته، ولكن ليس بكلامي أنا، بل ترجّعًا لما اختزنه فيّ من حضور اللَّه ومعرفته وحنانه وحبّه والشغف بكلّ ما يتعلّق به. علّمني اتّقان الليتورجيا وعشرة اللَّه في الآخرين، علّمني معاشرة الكتاب المقدّس عبر عجنه إيّاه كلمات في الوعظ والتأمّل والدهش. كان، على الرغم من كلّ هذا، عاملاً أبدًا بقول الربّ إنّ السبت جعل لخدمة الإنسان لا الإنسان لخدمة السبت، وكثيرًا ما رأيته يخالف المألوف أو يخرج عن النصوص أو المعروف والمتداول، من أجل فرح الآخرين، وعندي الكثير ممّا يمكن الشهادة به في هذا المجال.
الفرح هو صفته الأساسيّة. الفرح المتأتّي من الدهش اليوميّ باللَّه وأبنائه وبالكون وبكلّ ما خلقه اللَّه. مرّة حكى لي نكتة عن إنسان كان دائمًا يشعر بأنّه مندهش عندما يفيق من النوم، وفي أحد الأيّام لم يشعر بهذا… فاندهش! هل يمكن تخيّل ما مرّ به أبونا إلياس منذ لحظة دخوله الدير مع ما تبع ذلك من الصعاب والخيبة والتهجير والمرارة؟ وهل يمكن أن يحصي المرء ما استطاع هذا العملاق فعله. شخص واحد بحجم كنيسة. بعث النهضة في الكرسيّ الأنطاكيّ وفي الرهبنة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة، وكتب، وحاضر، ومثّل الكرسيّ في المنتديات والندوات والمحافل. سافر، وتجوّل، وتفقّد الأبناء والبنات، وسهر وكدّ، وتعب، ولم يكلّ. أعيدت ولادة الآلاف بالروح على يديه. فتكرّس المئات، واهتدى المئات. فشعّ نوره خارج حدود كنيسته. وصار أبًا لمن أتوا من المشارق والمغارب إلى حضن إبراهيم.
لذا، فما فعله هو تراث في شخص فرد، وما أسّّسه باقٍ ما بقيت روحه حيّة في وجدان من تتلمذوا على يديه، ونهلوا من زاده، ومشوا على خطاه. هذا قدّيس من أنطاكية، أيقونة محفورة في قلوبنا وفي عمق كيان الكنيسة، عمود من نار الحنان وجسر عبور إلى حبّ يسوع.
ستظلّ، يا أبي، منارة لي، أهتدي بها في ظلام الأيّام وأفرح بها في مشوار الحياة. أنت ساكن فيَّ سكنى العطر في الورد، وسأظلّ أشمّك على الرغم من وخز الأشواك ووعورة الدروب، لأنّك وشم على قلبي وعقلي وذكرياتي وحاضري وغدي، ثابت وفاعل. لقد حصل ذلك منذ لقائي بك تلميذًا يتأهّب للدخول إلى الجامعة، وسيستمرّ، بدعائك إن شاء اللَّه، إلى أن ألتقيك في حضن الربّ يسوع الذي عشقته حتّى الرمق الأخير.