إلياس مرقس

mjoa Sunday February 21, 2021 165

غاب وجه  أبونا إلياس عن هذه الفانية. لكنّ الوجوه، التي أصقلها الوجد، لا تغيب، بل تحتجب عن عيوننا، لتلتصق بوجه اللَّه الحاضر أبدًا. ليست هذه المرّة الأولى التي يحتجب فيها. ففي الواقع، كانت حياته احتجابًا منذ أن أخفى وجهه، في مطلع شبابه، وراء دعوة أهل كنيسته إلى أن يتركوا وجوههم، ليصالحوا الوجه. ثمّ أكمل احتجابه في اختياره أن يحيا، في جبل لبنان، استقرارًا في وجه اللَّه وحده.

ماذا يعني أن تطلب الوحدة باللَّه في الحياة الرهبانيّة؟ سؤال، على أنّني غير مؤهّل لأن أجيب عنه، سأردّد فيه بثقة: يعني أن ترتضي أن يضيع وجهك في وجه اللَّه الحاضر أبدًا. وهذا يبيّن، لا سيّما لي، أنّ ما أكمله أبونا إلياس خيارًا كان، بمعنى من المعاني، قائمًا في خياره الأوّل. فالرهبنة، خيارًا، لم يخصبها فيه وعيه النهضويّ فحسب، بل كانت وجهًا من وجوهه أيضًا. أخذ معه ما أفصحه شابًّا، في لاذقيّة العرب، إلى دير القدّيس جاورجيوس – دير الحرف، حيث أقام، أي أخذ معه أنّ “صورة هذا العالم في زوال”. هذه، إذا أردنا أن نعبّر عن نهضة المسيح مهداةً إلينا، هي هي أنّه قام وأقامنا معه. فالنهضة، حدثًا، إنّما تمدّنا إلى أنّنا بتنا »مواطني السماوات«، أي أنّنا في العالم ولسنا منه. المسيحيّة، كلّها كلّها، أن نعي، أينما كنّا، في البرّيّة أو في المدينة، وعيًا لا رجوع عنه، أنّ حياتنا لا تصحّ إن لم يؤجّجها الوعي أنّ “هذا العالم في زوال”.

هذا يؤكّده، عندي، أنّ أبانا إلياس لم يهجر حبّه الأوّل فيما قرّر أن يحتجب في دير. بقي، كما بدأ، داعيًا إلى أن نترك، أينما كنّا، وجوهنا، لنصالح الوجه. لا أعرف إن كان ثمّة مَنِ استخفّ أنّ الرجل كان يحيا في ديرٍ بابُهُ مفتوحٌ تقريبًا باستمرار. ولنفرض أنّ ثمّة مَنْ فعل، فتبقى هذه الخبرة قائمةً تنادينا جميعًا إلى أن نفكّر في حيويّـة أمانتها. لم يكن هذا المستوحد الفذّ شخصًا يرتجل حياته وقراراته، بل كان يدرك، إدراكًا لا لبس فيه، أنّ الحياة في المسيح، واحدةً، إنّما تعاش في بعدين لا ينفصلان. وهذان أن تحبّ اللَّه شخصًا، وتحبّه في الإخوة الذين يلوذون بك، والذين يأتونك يطلبون »كلمة حياة«، والذين لا يدركون أنّ المسيح هو حياتنا. هل لذلك كان يفرح برؤية الكلّ، ويشعرهم بأنّهم جميعهم قيمة في عيني اللَّه؟ هذا جواب!

علّم أبونا إلياس، في حياته كلّها، أنّ تخصيص الحياة كلّيًّا للَّه إنّما ليبقى حبّ النهضة حيًّا في كنيسته أبدًا. لا أريد الخروج على التأمّل في هذا التعليم المنجيّ بطرح سؤالٍ يقضّ مضاجع كثيرة. لكنّني، من دون أن أتقصّد الخروج، لا بأس إن سألت علنًا: ما هو الهدف الذي يضعه أمامه كلّ مَنْ أنجبه الوعي النهضويّ إذا وقعت عليه القرعة، أو قرّر أن »يصلب جسده وما فيه من أهواء وشهوات« في دير؟ هناك بعضٌ فعلوا، وترى بعضهم يرتاحون إلى اختزال النهضة فيهم. فعلوا، أو وصلوا إلى موقع قياديّ، إذًا تحقّق كمال النهضة فيهم! أمّا هو، فبقي اعتقاده ظاهرًا أنّ النهضة أمّ تخصيص الحياة للَّه وأبوه. أمّا هو، فكنت ترى فيه حبّ انتشار الوعي النهضويّ بقي يضنيه! كان رجلنا يدرك أنّ كلّ شيء بدأ لنا في هذا الزمان الجديد الذي تضوّع فيه عطر حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وهذا، أقول أدبيًّا، أمر، إن أصابك حقًّا، لا يمكن أن تشفى منه. يقلقك. يجعل ليلك نهارًا. يبكيك من شدّة اكتشافك أنّك محبوب، ابن محبوب!

لا أستطيع أن أنسى أنّه، كلّما تحلّق حوله بعض إخوة في قاعة ديره، كيف كان يطايب الكلّ كما لو أنّه لم يترك طفولةً لا تُترك. لِمَ؟ هل سألتَ مرّةً: لِمَ راهب شيخ يكلّمك كما لو أنّه طفل؟ هل تساءلتَ: لِمَ يدعوك، في وقت مقبول وغير مقبول، إلى أن تبتسم؟ هل انتظرتَ أن يختزل ملاقاتك بإشباعك كلماتٍ تشعرك بالرضى؟ إن سألتَ وتساءلتَ وانتظرت، يعني أنّك لم تدرك، تمامًا، أنّ مَنْ كان أمامك هو ابن للَّه، خادم لفرحه، كلمة من كلماته! لم تدرك، تمامًا، أنّ مَنْ أضاع وجهه في الوجه عاد لا يريد أن يرى أحد سوى ذلك الوجه! هناك، في الدنيا، أناس يصرّون على أن يستوقفوك عندهم. وهناك مَنْ يحيون عمرهم جسرًا، ليطأهم الناس، كلّ الناس، ويصلوا إلى الغاية، إلى الكامل، أي إلى اللَّه الذي يمشي معهم إليه.

عندما زرته في المستشفى قَبْلَ أن يحتجب أخيرًا، كان قابعًا في سريره لا يقوى على الكلام كثيرًا. وهل يهمّ؟! رددت له مطايباته بواحدة، ثمّ أردفت بجدّيّة: »ثمّة سرّ فيك طيّب«. حرّك رأسه، وتمتم. فهمت أنّه ينتظر تحديدًا. قلت له: »أنت إنسان لا تعتقد بالرهبنة العدديّة«! ابتسم. واستقبلت ابتسامته موافقة. وهذه، أعتقد، لم أسقطها عليه. لم تكن هذه المرّة هي المرّة الوحيدة التي أشعر فيها بأنّ الرجل يميل إلى أن يصغي كثيرًا. أن يصغي أو يصمت، لا فرق. لم يزد عليه نزوله في المستشفى شيئًا. يمكن: زاده صمتًا. أعتقد أنّ كثيرين يوافقون على أنّ حضوره بيننا كان »هروبًا«، سمّيته مرّاتٍ احتجابًا، لندرك اللَّه حقًّا، ونعزّز قلوبنا بما أودعه روحه فينا. وهل مَنْ أضاع وجهه، عمدًا، يقبل أن يشغلك ما هو ضائع؟ وعلى ذلك، تُشغل. تسحر. تجنّ. فاللَّه، كلّيًّا، هنا. أن تتنازل عن وجهك، هو فصاحة، ما بعدها فصاحة، أنّك تؤمن بأنّ المجد هو للَّه وحده. هذه ثقة لا يقوى عليها سوى مَنْ تأصّلوا في أنّ وجه اللَّه هو الباقي أبدًا.

احتجب أبونا إلياس في الباقي أبدًا. ونحن، في مجلّة النور التي أكرمها في مساهماته، إن خصّصنا هذا العدد لذكره، فليبقى حيًّا فينا ما أرساه في سنوات عمره، أي أنّ النهضة حياتنا. هذا العدد نرجوه تجديد وعد بأن نشدّد، أينما كنّا، رُكَبَنا، ونبقى نمشي باتّجاه عبّده هو وبعض رفاقه، نمشي باتّجاه الوجه.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share