الأب الياس مرقص التماعات أنطاكية (محطّة).!.

الأرشمندريت توما بيطار Sunday February 21, 2021 221

لا أريد أن أتوقّف عن الكلام على الأب الياس، عند هذا الحدّ، ولا أستطيع!. لكنّي أقطعه بخبر ما عاينتُ. منذ بعض الوقت وأنا أتساءل: لماذا، الآن، يأتي هذا الإلحاح الأحشائيّ في الكتابة عن الرّجل؟!. في الحقيقة، لا أعرف تمامًا!. فقط أشعر، في نفسي، أنّ ثمّة جديدًا عندي، في تعاطي الكلمة والمقالة، لم أعهده من قبل…
في العادة، أكتب، ويكرّ الكلام، أحيًانًا، كرًّا، وأحيانًا أخرى، بشيء من الصّعوبة كمَن ينحت. هذه المرّة، الأمر مختلف. هاجس الأب الياس في الكتابة يكاد لا يفارقني. ولو لم أفكّر في هذا الأمر أو ذاك، في شأنه، فإنّه حالما يَرِدُ إلى وعيي وانتباهي، أشعرُني، في داخلي، كأنّ ثمّة ما يجري إعداده فيَّ، واعيًا أو غير واعٍ. ثمّ، متى جلستُ لكتابة مقالة “نقاط على الحروف”، وهذا يتمّ في العادة يوم الجمعة من كلّ أسبوع، ألقاني، داخليًّا، وكأنّي تلميذ يؤدّي امتحانًا، ولا أقول لا يجد نفسه مستعدًّا، بل مستعدّ تمامًا، وإن كنت لا أدري كيف يتكمّل هذا الاستعداد لديه!.
إلى أين سيُفضي بي هذا المسعى؟. متى يكون تمامُه؟. لستُ أدري!. فقط أعلم أنّي لستُ وحدي. أنا، في العادة، في تعاطي الكلمة الإلهيّة، لستُ وحدي. ولكن، هذه المرّة، بشكلٍ، أنا واثق أنّه مختلف!. لا أكشف سرًّا إن أخبرتُ أنّي أقلعتُ عن الكتابة العقليّة المعلوماتيّة من زمان. أقلّه منذ بعض الوقت. ومتى وجدتُ الكلام، بعامّة، لا ينساب انسيابًا، توقّفتُ. رغم ذلك، بعض الخطاب كان لديّ ولادةً طبيعيّة، وبعضه معاينة داخليّة، وبعضه ولادة قيصريّة. في العادة، قبل الكتابة، ينتابني شيء من القلق. هذه المرّة، هكذا بدأت، ثمّ ثبت فيَّ يقين أنّ مَن أكتب عنه (الأب الياس)، أو أكتبه، إذا جاز التّعبير، أو ملاكه، إن كان هو فعلًا مَن يدفعني إلى الكتابة، ويرافقني فيها، فسأستمرّ، ومتى نضب ينبوع الكلام أتوقّف!. إلى الآن، هذا لم يحدث بعد!. ثمّ كلّما جلستُ لأخطّ ما يمكن أن يُتنزَّل عليّ، اكتشفتُ الصّيغة التّعبيريّة تحضرني دقيقةً، بلّوريّة، مشرقة، والأفكار واضحة، جديدة، وجديدة عليّ بخاصّة، وتلقائيّة!. ما هذا؟!. أين كانت مُخبّأة هذه الالتماعات؟!. أتساءل!. وهذا يحدث حتّى لَأقول لنفسي لا فقط أنّ ثمّة مَن يرافقني في مسعاي، بل إنّه، أيضًا، يرافقني لقصد محدّد، وهو إبراز الأب الياس، بعد أن بقي، بعامّة، مغمورًا سنين، في حياته، وحتّى بعد مماته، إلّا في مناسبات عاطفيّة واحتفاليّة!. كأنّ ساعة استحقاق الرّجل قد آنت!.
على هذا، أدفع هذا الجديد الّذي عبرتُ به إلى القارئ العزيز، راجيًا أن أتابع، في الأسبوع القادم، بإذن الله، ما توقّفتُ عنده في الحلقة الرابعة عشرة من هذه الالتماعات.
بعد ليلة تقلّبتُ فيها، منذ أيّام، بين الأرق والنّوم الخفيف والصّلاة، عاينتُ، ما بين الحلم واليقظة، ما دوّنتُه بعد صَحْوي. وهذا ما كان عليه الكلام، أدوّنُه ونفسي مرتاحة لذلك تمامًا!.
“أكتب هذه الكلمات يوم الإثنين صباحًا من الثّاني عشر من شهر آب، بدءًا من السّاعة السّادسة والرّبع صباحًا:
استفقتُ من النّوم قبل قليل، بعد ليلة كان نومي فيها خفيفًا. آخر ما عاينتُه قبل صَحْوي كان حلمًا كأنّه واقع انطبع في ذهني وهو ماثل أمامي. وجدتُني على دفعتين أعاين الأمر عينه بالتّمام: كأس نبيذ بلّوريّ بدا نقيًّا تمامًا إلى الشّفا، والكأس بدت لي مخرَّمَة. كان النّبيذ، عند الشّفا، يهتزّ قليلًا لكنّ نقطةً منه لم تسقط. لم يبدُ الكأس صغيرًا. كان كأنّه وعاء كبير!. كان يحمله من جهة كائن ما لم أتبيّن تمامًا مَن يكون. وكان مطلوبًا منّي، في حسّي، في داخلي، أن أشترك في حَمله ونقله من حيث وُضع!. شعرتُني كأنّ لذاك الكائن صفة رسميّة!. كان مُقرَّرًا أن أشارك في نقل الكأس!. فعلتُ ذلك وأنا في مهابة، مع أنّي لم ألاحظ أنّي وضعتُ يدي على الكأس لأنّي رأيتُ الكأس كما هو. فقط شعوري كان أنّي أشترك فعلًا في نقله. ورأيتُ الكأس ينتقل!. وكان عليّ أن أحرص على ألّا تنسكب منه نقطة!. شعرتُني وَجِلًا حريصًا!. وفيما كان الكأس ينتقل من مائدة ما لا أعرف ما طبيعتها، استفقتُ…
ساءلتُني ما هذا؟!. للحال جاءني فكر أنّها رسالة ذات مغزى!. ما خطر ببالي كان أنّ ثمّة ما له علاقة بالأب الياس الّذي أكتب عنه هذه الأيّام، وأجدُني أتردّد في كتابة المزيد كمَن ليس له بعدُ شيء يقوله!. كلّ أسبوع أكتب، بنعمة الله، ولا أعرف مسبَقًا عمّا سأكتب!. كأنّ عليّ أن أكتب ولا أستطيع إلّا أن أكتب!. من أين يأتي هذا الكلام؟!. كأنّ ثمّة، أحيانًا، مَن يُمليه عليّ، حتّى في تفاصيله!. مَيلي، إلى حدّ ما، أن أتوقّف بحجّة أنّ وعائي قد فرغ، فجأة تنبت كلمة من هنا وفكرة من هناك، ولا أستطيع إلّا أن أهذّ بها!. ثمّ، متى جلستُ إلى مكتبي ودفتري، أجد القلم يتحرّك بيُسرٍ ووضوح وصحوٍ كأنّ ثمّة مَن يوحي لي بما أقول إلّا بعض الألفاظ والزّوائد أضيفها، أو بعض الأفكار أنقّحها وتزيد من إبراز المعنى، كما أفهمه. وأحيانًا، أكتب وأكتب ولا أُدخِل في ما أكتب أيّ تعديل، ما يزيدني يقينًا أنّ ثمّة مَن يشاركني في كتابة المقالة!. الأفكار، من جهة أخرى، تترابط في ما بينها، والفكرة تفتح أفقًا على أفكار جديدة، وهكذا أجدني بإزاء الولادة تلو الولادة، غير المتوقَّعَة، في كتابة مقالة الأسبوع!.
هذا ما خطر ببالي بعدما صحوت، والنّبيذ، عند شفا الكأس، يهتزّ قليلًا على التماعات، في صفاء أخّاذ!. فقلتُ أدوّن ما رأيت وما شعرت به، فأخذت هذه الورقة وجلستُ نصف جِلسةٍ في سريري وكتبت ما كتبته دون تردّد أو تغيير…
السّاعة الآن السّادسة وخمس وخمسون دقيقة
لمجد الله
توما
12 آب 2019
ملاحظة: خطر ببالي أيضًا أنّه إذا كان الرّبّ الإله يريد أن يعلن قداسة الأب الياس فإنّه هو مَن سيعطي كلّ كلمة عنه. وهذا بدأت أشعر به تفصيلًا!. هذا ليس لأوحي بشيء، بل لأقول الحقّ زُلالًا!.”
لستُ، في العادة، رجل أحلام. معظم أحلامي أنساها، وبعضها يزعجني أو يُقلقني وإن كنت، بعامّة، لا أقيم لما أراه في المنام وزنًا. لكنّي، بإزاء ظلّ الأب الياس مرقص عليّ هذه الأيّام، تخطر ببالي أفكار وأفكار، وبعضها يأتيني من حيث لا أعلم من أين!. ليست تمامًا منّي لأنّه لم يسبق لي أن فكّرت بها في يوم من الأيّام. تأتيني كأنّها تحصيل حاصل، في صفاء ما بعده صفاء حتّى لَأعجب منها، وكأنّي أكتشف فيها مزايا لدى الأب الياس، كما للمرّة الأولى!. أعلم أنّ الأمور الفكريّة تنضج في الوجدان، حتّى، أحيانًا، من غير وعيٍ منّا. رغم ذلك، أجرؤ أن أقول أنّ ثمّة حضورًا للأب الياس لديّ، هذه الأيّام، لم أعهده من قبل، لا في كثافته ولا في ألوانه!. يأتيني في إلحاح صامتًا على عادته، وهو كان قليل الكلام، في كلّ حال، لكنّ صمته دائمًا ما يأتي مُشبَعًا بالكلام!. هذا أفضيتُ وأفضي به ملتمسًا الأمانة لله وضميري والرّجل، الّذي كان أبًا لي بكلّ معنى الكلمة، وأنا أعرفه اليوم، من خلال ما أكتبه عنه، على أعمق ما عرفته في حياتي، في إيلادي في المسيح!.
كيف لي أن أفكّر في الله والأحبّة – والأب الياس حبيب – على هذا النّحو؟!. هل هذا وهم، أن أتصوّر أنّ ثمّة ما أو مَن يرافقني، وأنا مُلزَم بمواكبته، في هذا المسعى إلى إضفاء مثل هذه المسحة الأسراريّة على شخص مَن أتناوله بالكلام؟!. فكر كهذا لا ينتابني البتّة في هذا السّياق!. في الحقيقة، علّمتني الأيّام أن أتعامل مع الله حيًّا وسيّدًا ورفيقًا وكولد، ولكن على شيء أو على الكثير من القِحة البنويّة، الآتية ممّا كان يسمّيه الأب الياس “أنفة”!.
مرّة، منذ أكثر من ثلاثين سنة – ولهذا أسمح لنفسي بالكلام عنها الآن – خُطفت امرأة من حيّنا لم يكن لها أولاد. زوجها كان في مأساة لم أعرف مثلها في حياتي!. مَن خطفها؟. لِمَ خطفها؟. ماذا يريد من خطفها؟. كيف نعلم؟. كيف نستردّها؟. كلّ هذا كان في المجهول!.
أُخذتُ بوجع داخليّ ما بعده وجع!. قلتُ: إلى مَن نذهب؟!. قلتُ لربّي: ليس لنا إلّاك!. أنت سيّدنا!. أنت زعيمنا!. أطلب إليك أن تطلقها لأنّك أنت وحدك القادر على كلّ شيء!. هنا خطوتُ خطوة جسورة لم يسبق لي، في يقين كياني، أن خبرتُ مثلها، ولم أعرف نظيرًا لها، مذ ذاك، إلى اليوم!. هل كانت منّي أو من إلهي؟. اليوم، أميل إلى القول إنّها من الإثنين معًا!. أقول ذلك لأنّي تعلّمت، في ما بعد، أنّ ما حدث لم يكن برسم التّكرار!. إذًا، بقناعة كاملة، يومذاك، قلتُ له، وأنا أعني تمامًا ما أقول: “إن لم تُخرجها من حجزها، فلا أستطيع ولا أريد أن أبقى لك كاهنًا بعد اليوم!. أنا لا أقبل أن يكون لي ربّ وسيّد “عاجز” وأنا أعرف أنّه حيّ وكلّيّ القدرة!”. مهما كانت مقاصده ومهما كانت أفكاره، لا أستطيع أن أقبل!. نفسي تتمزّق!. لا يمكنك أن تترك النّاس والحال هذه!. بكاء زوج تلك المرأة كان يفتّت الأكباد!. لا أظنّ أن ترك الأمور على هذه الحال “يليق” بإلهي!. إثر ذلك، قلتُ له بثقة كبيرة، بدالّة كبيرة، بيقين كبير، بتحدٍّ كبير، ولكن بشيء، لا أفهمه، من الاتّضاع الكبير(!): تُطلقها قبل السّاعة الثّانية من بعد ظهر الغد أو أترك الكهنوت.!!!.
تلك اللّيلة تصارعت، في رعونتي، مع الله!. وأخذني ربّي على قدر عقلي!. ترجّحت بين مهابة كبيرة وجسارة فائقة!. لم أشعرني وقحًا بقدر ما شعرتني ابنًا يصارع لأنّ سيّده قال ذات مرّة: “ملكوت السّموات يُؤخَذ غِلابًا”!. في اليوم التّالي، وأنا حافظ الصّلاة بتواتر، دخلت في الانتظار والعدّ العكسيّ!.
أخيرًا، كنت جالسًا أنتظر مصلّيًا، وكان ثمّة، في المكتب، مَن كان جالسًا عند الهاتف يعمل!. وما إن حلّت السّاعة الواحدة من بعد الظّهر، حتّى رنّ الهاتف!. ماذا؟!. الآن جرى إطلاق سراح المرأة.!!!. صرخت بدموع: “حيّ هو الله الّذي أنا واقف أمامه”.!!!. وبكيت، بكيت وِسعي.!!!. شعرتني، في العمق، دودةً لا إنسان، وبعظمة الله ومحبّته!.
هذا أنقله عبر هذه الأسطر، لعينك يا أبانا الياس… مستسمِحًا ما عهدتَه من رعونتي، مرّة أخرى!…
لتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 18 آب 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share