سمعت عنه أكثر ممّا التقيته ورغم ذلك كان له أثر في حياتي

الأب ثيودور الغندور Sunday February 21, 2021 134

الأب ثيودور الغندور

منذ سنوات، وكنتُ حينها في سنّ المراهقة، كنت أسمع، باستمرار، عن دير الحرف، وعن راهب قدّيس يحبّه الجميع جدًّا اسمه »أبونا إلياس«. وكانت المرشدة في فرقة الاستعداديّين في كنيسة سيّدة الزلزلة تحضّر مع الأب جورج رحلة إلى دير الحرف، الذي كان وما يزال دائم الذكر بين أعضاء مكتب النشاطات الروحيّة، في أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. وكنت كالآخرين، مسرورًا بفكرة الرحلة، أكثر من الاهتمام بالمكان والزمان. لكنّ الوصول إلى دير الحرف بدّل العديد من المفاهيم في ذهني، فجذبني اللَّه الساكن في حجر الدير وبشره. ولم تملّ عيناي من التأمّل في ما كانت تطرب آذاننا لدى سماعنا عنه. ولم تكن، على الأقلّ بالنسبة إليّ، المعاينة الحسّيّة مشابهة لتلك الصورة التي رسمتها في ذهني، عبر ما توارد إلى مسمعي من حديث المسؤولين. فالواقع أبهى وأجمل بكثير. فهمت، يومها، لماذا كان لهذا الدير الأثر الكبير في انطلاقة مكتب النشاطات الروحيّة، الذي أسّّسه سيادة المتروبوليت إسبيريدون (خوري) راعي أبرشيّتنا الموقّر. شاهدت، بأمّ العين، ذلك الشيخ الجليل الذي ما إن أطلّ في رواق من أروقة الدير، حتى تحلّق المسؤولون حوله ملتمسين البركة منه، وكان وجهه المبتسم يجول يمنة ويسرة، ليحيّي الجميع. واقترب منّا، ليتوجّه إلينا بكلمات قليلة، واضعًا يده على رأس كل منّا. إلاّ أنّي، للأسف، نسيت الكلمات، وبقيت في ذهني مطبوعة صورة ذلك الراهب الذي طالما عرفناه بالقدّيس، وكنت مسرورًا جدًّا إذ التقيت، ولو لدقائق قليلة، ذاك الذي طالما كان محور حديث سنوات وسنوات.

دخلت، في ما بعد، معهد اللاهوت البلمند، وهناك أيضًا كثيرًا ما تردّد اسم مؤسّّس الشركة الرهبانيّة في أنطاكية »أبونا إلياس«. وازدادت صورته إشراقًا في ذهني، لمّا بدأت أتصفّح كتاباته وتفاسيره للكتاب المقدّس وعظاته. فكانت كلمات حيّة تجعل القلب يمتلىء بالمسيح الساكن في الكاتب، والظاهر في كلمات كتبها بغزارة رغم انطباعه، في حياته، على الصمت عمومًا.

عندما كنت أزور الدير، كنت ألقاه في قاعة الاستقبال أحيانًا، أو في الساحة الخلفيّة بجانب البستان، يتحدّث إلى زوّار كانوا يأتون إليه من كلّ حدب وصوب. وكنت ألتمس بركته، وأسأله حول ما كان يشغل بالي من أمور كنسيّة ولاهوتيّة، وأنتظر جوابه الذي تسبقه عادةً مزحة أو تعليق، وكان، دائمًا، جوابه مقتضبًا، حتّى لو كان السؤال أطروحة. ولكنّ »الأرشمندريت إلياس«، رغم إجابته المقتضبة، كان يقدّم الجواب الشافي والكافي.

وقبل رسامتي الكهنوتيّة، زرته في الدير وقدّمت له الدعوة إلى حضور الرسامة وصافحته. فأمسك بيدي، وشحنني بكلماته قوّةً آمل ألاّ تنضب. وكذلك في الأحاديث القليلة التي سمعتها منه في أثناء الخلوة الروحيّة في دير الحرف قبل رسامتي بأيّام. وفي أثناء مخيّمات مكتب النشاطات الروحيّة، كنّا نتمنّى أن نراه إذ أصبح وجوده في الأروقة والباحة وقاعة الاستقبال نادرًا في الآونة الأخيرة من حياته، فكنّا كمن ينتظر الشمس، لتشرق.

وكانت لي زيارة أخيرة له قبل رقاده بأشهر قليلة، حيث شدّني كلامه، ودفعتني إرشاداته التي ردّدها لي بصوت خفيض وهو في غرفته، لمتابعة مسيرة رئاستي لمكتب النشاطات الروحيّة بما يرضي اللَّه، ويبقي شعلة النهضة التي أطلقها مشتعلة ومتوهّجة. وسألته كما كنت أسأله دائمًا صلواته، فكان أن جعل منه الربّ الإله شفيعًا لنا دائمًا لديه، فهو، الذي عاش مسيحًا على الأرض، عاد إلى فردوسه الذي جعلنا نتلمّسه كلّ مرّة كنّا نلقاه فيها عسى أن تلهمنا قداسته حكمة، لنكمّل المسيرة.

صحيح أننّي لم ألتق به طويلاً، لكنّه أثّر فيّ كثيرًا.  فبصـلواته، أيّـها الـربّ يسـوع المسيح، ارحمـنا، وخلّصـنا.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share