فجيل (مزمور 64: 4)
الأرشمندريت بندلايمون فرح
بعد انتقال الأب الوقور إلياس (مرقص)، عميد الرهبان في أنطاكية أجمع، وددت أن أستذكِر بعضًا من مزاياه التي كانت تلفت الانتباه، وتشدّ النفس إليه، فيسحبها إلى اللَّه كأنّه الصيّاد الماهر الذي فَهِمَ رسالتَه أنَّه عامل مع اللَّه لخلاصنا.
لذلك، لن أكتب عمَّا سمعته من الناسِ، وهم صادقون في وصفهم، بل عمَّا رأيت منه وخَبِرته فيه بذاتي، مفسحًا بالمجال للآخرين لإبداء خبرتهم الذاتيّة. وأوّل ما لفتني إليه، بساطته الرسوليّة التي دَعته، لِيهجر الأمجاد العالميّة، وهو ذو المنصب الرفيع في مجتمعه، عائشًا ببساطة القلب والسلوك، متواضع اللباس والمأكل والكلام، بحيث إنّه يُعلّم بصمته كما بكلامه، من دون تكلّف وابتذال. دقيق في تحليله، لكنّه لا يجرح السامع ولو أنّبه، ولا يبالغ أو يضخّم لأنّ كلامه يُعزّي ولا يفقِد الأمل، ورجاؤه دومًا مقرون بالإيمان والمحبَّة.
في تأمّلاته، يدقّق في النصّ بنشاط لا يسمح بالملل، يشجّع السامع والقارئ باثًّا الأمل، لأنّ الشعب هو شعبنا وأولاد كنيستنا الذين علينا واجب تعليمهم بحبٍّ وصبرٍ وإيمان.
محبّ للجميع حتّى على حساب راحته وبرنامجه، رغم أنّه دقيق ومرتّب. يحبّهم، ويحتملهم بصبر وفرح. وهذا دليل على تواضعه وزهده بالقيمة الذاتيّة.
أمّا التصاقه بالربّ في صلاة حارّة وعميقة، فأكثر ما يتجلّى حين تبرز الصعوبات والأزمات المرّة، إنْ في الكنيسة أو في الوطن. فتجده هادئًا يستدعيك إلى الصلاة والاتّكال على اللَّه. لا يفاخر ولا يعتدّ بنفسه، بل يحمل الكلّ في قلبه على غرار معلّمه يسوع، رافعًا إيّاهم في الصلاة بتسليم ورضى.
العمل عنده أوّلاً، مع الصلاة والخدمة، ثمّ يأتيكم التعليم: »طوبى لِمَن يعمل ويُعلِّم« (متّى 5: 19).
يفاجئك في ردِّه والجواب، وكأنّه يستبقك في فهم ما يدور في خلدك. ودائمًا، يشدّد على الارتباط بالمسيح، لأنّه تأكّد بخبرته من هذه الحركة المزدوجة الاتّجاه (فيما تسعى إلى التقرّب من المسيح، تجد نفسك منشدًّا إلى القريب. وطالما أنت متقرّب من الآخر، تترسَّّخ في المسيح بالأكثر).
ما قصدته يومًا لأشكو ظلمًا ما، حتّى أعادني إلى نفسي لأشكوها، فتبرأ، وأستريح. وكثيرًا ما أضحكنا بظرفه المعهود (دلالةً على ذكائه المتَّقِد)، مبدِّلاً تذمّرنا المدمّر بمراجعة الذات وفحصها. ولأنّه متّكل على اللَّه، يبثّ فينا هذا الرجاء، الذي لا تعروه خيبة.
أخيرًا، أكتب عن دفعه ذوي المواهب إلى العمل وتسخيرها في خدمة الكنيسة، فهو يساعد كلّ شخص على إيجاد نفسه في الكنيسة عبر عمل ما يخدم الجميع فيه.
ببساطة، هو يحمل تراث الرهبان الأوّلين، ويلخّص في شخصه خبرات الفيلوكاليا بصدق. وقد تذكّرت مقالةً لسيّدنا جاورجيوس (خضر)، مطراننا الحبيب، في أحد أعداد مجلّتنا الحبيبة »النور«، بعنوان: »ما أحوجنا إلى أنطونيوس جديد«، وعندنا هذا الرائد المجلّي يستجيب للنداء بصمت وخشوع.
لا بدّ من أنْ أنوّه بفضله على دعم الرهبانيّة الأنطاكيّة بالصلاة والعمل، وكذلك على اجتذابه الشباب والصبايا إلى الكنيسة بتصرّفاته الوقورة وبكتاباته وترجماته وحسن استماعه، وبالأكثر بحلوله المبسّطة والدامغة.
أضرع إلى الربّ القدّوس، الذي حباه ملء هذه الصفات والمزايا، أن يجعل ذكره مؤبّدًا، مشاركًا أفراح السمـاء بأوفر حقيقـة، وأن ينعـم علـينا في الكنيسـة الأنطاكيّة بأمثاله، ليستمرّ العطاء وافرًا، والحصاد مباركًا، آمين.