الأب أفرام الحاجّ
كالرسّّام الذي لا يستطيع أن يرسم أيقونة قدّيس من دون أن يستلهم الروح، بصوم وصلاة وهدأة نفس تقود بعد التخشّع، إلى رؤية تكون الأيقونة التي تشف الروح بخطوط وألوان، هكذا للكتابة عن »أبونا إلياس« لا بدّ من الدخول في هـدأة، ليستـطيع القلم أن يكتـب بحبر أرجوه حبر الروح.
كلمات تخبر عمّا عجزت عيون لا تبصر عن رؤيته، وعمّا رأته عيون أبصرت وسعها.
اللَّه، الذي وهب تلك الروح العظيمة لإيليّا، والذي شاء أن تبقى في عالمنا بيوحنّا المعمدان، شاءها في زماننا ومن أجلنا حاضرة وفاعلة في »أبونا إلياس«… روح نبوءة أبلغت مشيئة اللَّه بوداعة، شابهت السيّد الذي »فتيلاً مدخنًّا لم يطفئ، وقصبة مرضوضة لم يكسر«، بل سعى، بكلّ ما أعطي من إمكانات، ليوقد الفتيل، ويجبر القصبة.
كم عسر على عقولنا أن تفهم اقتران روح النبوءة عنده بالوداعة… فمن سبقوه في النبوءة، وبخّوا، ولعنوا، وحملوا السيف… روح نبوءة – إن وبّخت – وبّخت الأنا فيه، وجعلته مكسورًا أمام جميعنا طالبًا صلواتنا.
تلك الروح، التي نالها مع من انفتح لها، انبثّت في أنطاكية، تيّارًا حرّك النفوس الساكنة في »بلد الموت وظلمته«، إلى النور المشعّ في كنيسة المسيح. كانت فيهم وصاروا بها صوتًا صارخًا في برّيّة أنطاكية أن »توبوا فقد اقترب ملكوت السموات«. تلك الروح، التي خبت في كثيرين، بقيت فيه متّقدة، وإن أصبح الصراخ تمتمات شفاه تصدر من قلب يلتهب حبًّا للجميع، وبخاصّة للذين هم على ضلال.
سعى كمعلّمه، ليجمع إلى مائدته »المساكين والجدع والعرج والعمي«، عسى أنّهم، برحمة اللَّه، ينالون فرحه. قبل كلّ من أتاه طالبًا احتضانًا فاتحًا لهم قلب محبّته وديره، حتّى الذين رفض قبولهم عند غيره، بسبب من قوانين ظنّوها وضعت لترضي اللَّه وبإلهام الروح، إذ كان دليله في حكمه هو فقط قوله لمن سألوه أنّهم »لو أتوا إلى يسوع، أما كان قبلهم؟«.
كـان حـرًّا مـن نفسه خاضعًا لقانون المحبّة، الذي صاغه البشر عبر تاريخهم، قوانين أصاب بعضها وأخطأ بعضها الآخر.
بلغ التواضع بنسك أهزل منه الأنا حتّى أصبحت شفّافة للسيّد الساكن فيه. كنت في حضرته لا تشعر بتهيّب يأتيك من وقار فيه، كان بسيطًا كطفل، مرحًا كشابّ، ودودًا كصديق، حنونًا كأمّ، كان أمّا كالكنيسة يستقبلنا في حضن محبّته، يكفكف دموعنا، ويسكب على جراحنا »خمر وزيت« معلّمه. كان لنا الوجه الذي، إذا حضر، احتجب، لنبقى في حضرة معلّمه.
عندما سمعت بخبر رحيله عنّا، قلت لنفسي هل هو الغياب. ولكنّي رأيت عند دفنه الكثير من أليشع واقفين حوله وقائلين: »ليكن لي نصيب اثنين من روحك عليّ«، وعندما أودع أبونا إلياس باب السماء، كان كلّ أليشع يصرخ ويقول: »يا أبي، يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها… ولم يروه بعد«…
صلواتي إلى اللَّه الذي قبل أن »تقع حبّته في الأرض وتمت«، أن يجعل روحه تزهر في كلّ أليشع إيليّا جديدًا لزماننا.