يا ربّ ارحم

ديمتري سمعان Sunday February 21, 2021 345

ديمتري سمعان

كان ذلك في صيف العام  1957، في أوّل لقاء عامّ أحضره، وكان اللقاء الطلاّبيّ الثاني، في حركة الشبيبة الارثوذكسيّة، ضمن وفد مركز حلب، وكان مكان اللقاء مدرسة سيّدة البشارة الأرثوذكسيّة ببيروت. هناك، تعرّفت إلى الأخ مرسيل مرقص، وعلمت أنّه مزمع على تكريس ذاته في الطريق الرهبانيّ، الذي اختاره مع رفيقه الأخ شفيق منصور (صاحب السيادة المطران يوحنّا متروبوليت اللاذقيّة، أطال اللَّه عمره). شكّل لنا ذلك الحدث شيئًا جديدًا مدهشًا ومفرحًا في آن. هذه الرهبانيّة الرجاليّة الأنطاكيّة، التي توقّفت منذ أمد بعيد، ها الشباب يسعون إلى إعادتها إلى ربوع أنطاكية. هذا فرح كبير حرّك فينا الكثير من الحماس والاعتزاز بكنيستنا الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. ثمّ تكرّرت اللقاءات، وتعمّقت معرفتي بهذا الإنسان، الإنسان ببساطته وعمقه اللامتناهي، الذي كنّا نكتشفه بشكل متتالٍ. فكلّما نقترب منه، كنّا نلمس عمقه وهدوءه وسلامه الداخليّ، وعمق محبّته وإخلاصه لكنيسته.

على مدى سنوات، كان أبونا إلياس، بالنسبة إليّ، معلّمًا ومرشدًا. أذكر، في لقاء لي معه، أنّني سألته: »لماذا يا »أبونا إلياس« نكثر في صلواتنا من تكرار عبارة »يا ربّ ارحم«، من اثنتي عشرة مرّة، إلى أربعين مرّة، هل يحتاج الربّ إلى هذا التكرار كلّّه، ليستجيب للدعاء«؟ وكانت إجابته: »في كلّ مرّة نردّد »يا ربّ ارحم«، يجب أن نقصد بها أن يرحم اللَّه شخصًا نعرفه حيًّا كان أو راقدًا، أو حالة نطلب إلى اللَّه أن يسبغ عليها رحمته (حالة طبيعيّة أو وطنيّة عامّة)«. وكانت تلك أولى خطوات نقل الصلاة التي نردّدها إلى واقعنا المعاش، فعليّ، إذًا، ألاّ أردّد »يا ربّ ارحم« بشكل عشوائيّ وتلقائيّ، بل أن أقصد، في كلّ مرّة، أناسًًا معيّنين أو حالات خاصّة. وهكذا تحوّلت »يا ربّ ارحم« إلى تعبير شركة واسعة تشمل الجماعة والكون. ومع الزمن، أصبحت الأربعون مرّة لا تكفيني، لأذكر من أحبّ من الراقدين والأحياء .

وفي لقاء آخر، كانت الملاحظة تدور حول رسم إشارة الصليب. وكان شائعًا أن تُرسم إشارة الصليب بطريقة مختزلة وسريعة، فكان توضيح الأب إلياس أنّ رسم إشارة الصليب هو أحد أهمّ  التعابير غير الشفويّة عن الاعتراف بالإيمان. فكلّما كانت إشارة الصليب واضحت وكاملة، كان ذلك تعبيرًا عن وضوح إيماننا تجاه أنفسنا أوّلاً،  قبل أن تكون تجاه الآخرين. فنحن نؤدّيها، لنعلن إيماننا بالثالوث القدّوس، ونؤكّده تأكيدًا شخصيًّا كيانيًّا وفرديًّا. تمضي بنا الأيّام، تتعمّق علاقتنا، وتصبح زياراته لمنزلنا، عندما تكون حلب مقصده، مصدر فرح وتعزية. لطافته، التي ترافق وجوده عادة، كانت تسبغ على بيتنا بهجة تغمر الجميع، وفرحًا نتغذّى به، ويزيد من شوقنا إلى معاودة اللقاء. فالفرح الداخليّ العميق والهدوء النفسيّ الحازم، والنظرة الذكيّة ودماثة المعشر، مزايا كانت تشدّنا إلى الأب إلياس، بالإضافة إلى وضوح الرؤية وثباتها، تجاه العديد من الأمور التي عبرت سماء كنيستنا المحبوبة. السلام الداخليّ كثيرًا ما نتحدّث عنه أو نقرأ حوله في الكتب، ولكنّنا كنّا نلمسه واقعًا معاشًا عند لقائنا »أبونا إلياس«. من الصعوبة أن نذكر ونتذكّر ما تركه أبونا إلياس في نفوسنا، فهو كثير وعميق وأساس. عندما كنت أدعوه »رجل اللَّه«، كنت أشعر بأنّي أقترب من وصف هذا الإنسان، الذي احترمت وأحببت أنا وعائلتي كلّها. زوجتي مي التي كانت من أقرب أبنائه، وقد سبقته إلى حيث رحل، كانت فرحتها لا توصف عند زيارته منزلنا وحواره معها بإلفة ومحبّة. هذا الفرح انتقل إلى الأولاد، فنحن نشعر بأنّنا نحيا ببركة »أبونا إلياس« وشفاعته. فيا ربّ ارحم »أبونا إلياس« ،وأسكنه في ملكوتك، حيث كان يشتهي أن يكون دومًا.

وهو مستحقّ.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share