ترد في إنجيل لوقا آيةٌ تتحدّى كلّ قارىءٍ للكتاب، إذ يقول الربُّ في النصّ:
“لكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟”
يرد ذلك بعد مثل القاضي الظالم والأرملة، الذي يبدأ بما يلي: “قَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ” لوقا 18
الربّ يسوع يطرح التحدّي علينا ويعطينا الجواب عنه: الصلاة بلا ملل وكلّ حين! إنّها الدليل الأوّل على الرجاء وعلى قدرة النفس على التواصل مع الله خارج وحدة السقوط ظلمته. وذلك يتطلّب جهداً بشريّاً كي تحيا النفس انفتاحاً نحو الروح واستلهاماً له إذ تدرك أنّ هناك من يلاقيها ويسمعها.
مباشرة بعد ما سبق، يذكر الكتاب مثل الفريسيّ والعشّار، وقد وجّهه الربّ إلى “قَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ”. وذلك لأنّ إقفال القلوب على النعمة والبركة مردّه إلى “الثقة بأنّنا أبرار” مهما ادّعينا، بتواضعٍ مشبوه، بأنَّنا خطأة. هي “ثقةٌ” مختبئةٌ في خفايا النفوس، تمنع أعيننا من التماس وجه الربّ، فنرمي أسباب سقوطنا على من حولنا، ويترافق ذلك مع “احتقار الآخرين” بدل فحص الذات والسعي إلى الشفاء. منطق الربّ ودعوته مختلفان كليّاً. النصّ عند لوقا يتابع، بعد مثل الفريسيّ والعشّار، قائلاً: “فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضًا لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ انْتَهَرُوهُمْ. أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ:دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ”
إذاً، إن شئنا أن يجد الربّ إيماناً على الأرض متى جاء، علينا أن نتشبّه بالأطفال، وأن نقدِّم أنفسنا إليه ليلمسنا، مصلّين إليه كلّ حين ودون ملل، في كلّ الظروف المحيطة بنا.
الكلام على الأطفال يقودنا إلى مقطعٍ آخرَ مرتبطٍ بما سبق، حيث يقول الكتاب: “وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ” (لوقا 10)، ويأتي هذا الكلام بعد عودة السبعين تلميذاً بعد أن خضعت الشياطين لهم باسم يسوع.
“الحكماء والفهماء” المقصودون هنا هم، من دون شكٍّ، من “الِقَوْمِ الوَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ” كما ورد في إنجيل القدّيس لوقا 18.
في هذه الأزمنة الصعبة، حيث يلد الفسادُ فساداً أكبر وظلماً، واستهانةً بأرواح البشر، فيضربُهم اليأس والبؤس والفقر، عندما لا يجدون من يتّكلون عليه. تتعاظم مسؤوليتنا في انفتاحنا كالأطفال على إعلان الربّ ليسكب علينا روحه ويلهمنا في العمل مع الآخرين وفي خدمتهم. فيجد ابن الإنسان، الحاضر في الإخوة الصغار، إيماناً على الأرض، إيماناً يبادر ويخدم مبلِسماً الجراح، ويتحرّك ليلاقي، كما تمّت ملاقاته من قبل الربّ بعد أن فَتحت له القلوب جدراناً أغلقتها و”احتمَت” خلفها.
نستحضر هذا كلَّه في زمن العنصرة، إذ نحتاج إلى استلهام الروح لكي يقول لنا كلمة حياة في زمن الموت، ولسان حالنا: “يَارَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ” يوحنا 6
يقول القدّيس لوقا في الإصحاح الأوّل من سفر أعمال الرسل: “اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ، عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ، بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ”، “لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ”.
بماذا يوصينا الربّ اليوم؟ هل نحن ممن اختارهم للعمل وسط كنيسته؟ هل نلنا قوّة بحلول الروح علينا؟ يطرح علينا النصّ الكتابيّ هذه الأسئلة. ونحن معنيّون بالتفكير فيها إذا أردنا أن نختبر حدث العنصرة فعلاً.
الله كريم “لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْل يُعْطِي اللهُ الرُّوحَ” يوحنا 3. لماذا إذاً تحيط بنا الخيبات والسقوط والتراجع؟ هل حجب الربّ روحه عنّا؟
لا شكّ أنّ المشكلة هي في بصرنا وفي بصيرتنا. في ترداد لأمور مضت ومحاولة استحضار أساليبنا القديمة في مواجهة واقع مستجدّ. المشكلة تكمن في ظنّنا أنّنا نمتلك مفاتيح الحلول كلَّها، وأنّ ما يعيقنا هو عدم التزام الآخرين بها.
ما هي مشيئة الربّ اليوم؟ أن يصغي الناس إلى ما نقوله نحن ونردده؟ أليست هي في أن نؤمن أوَّلاً بأنّه يقول لنا شيئاً جديداً؟ أليست مشيئتُه أن نرمي “حكمتنا” لكي نصغي ببراءةٍ و”سذاجة” إلى “البشرى الجديدة”؟
دعوتنا في هذا العيد هي أن نلحّ ونلجّ في صلاةٍ كي نصغي إلى ما يهمس به الروح للكنيسة اليوم. إلى الفرح كالأطفال بكل من نلتقي به كلّ يوم.
” مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ”. الدخول مرتبطٌ بالخروج. الخروج من أين؟ (“لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ”): الخروج ممّا نظنّه حكمة وفهماً إلى اندهاش وفرح بكلّ عمل، مهما كان صغيراً، نُدعى إليه. الخروج من خلافاتٍ وسوء الفهم قتل علاقتنا ببعضنا كي ندخل في زمنٍ يتجدّد كلّ يوم، مثلَ فجر يومٍ آخر، في قيامة تحصل كلّ يوم. خروج من تشوهٍ في العلاقات القديمة إلى منطق مختلف وأفكار جديدة، وخبرات لم تخطر على بالنا من قبل، قد تصدر من إخوة صغار لم ننتبه إلى حاجتنا وحاجتهم إلى أن نصغي إليهم. ” لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ”. لعلّنا بواسطتهم نعود كالأطفال، إذا ما اعتبرنا انشغالاتهم وهمومهم رسالة من الربّ إلينا اليوم.
العمل والتعليم اللذان يدفعنا إليهما الروح في عيد العنصرة، نفهمهما حين نخرج من أماكن “راحتنا” في كلامنا القديم، ومن “استقرار” قاتل في طرق تفكير هرمت وعجزت عن نقل روح الربّ المتدفّق والحيّ دائماً. ومن لغة خشبيّة تصلح لصنع توابيت ندفن فيها “حكمتنا وفهمنا”، ولا تصلح لتحريك النفوس في زمن عطشٍ إلى كلمةِ تعزيةٍ تخرج من قلبٍ يضخّ فيه الربّ دماً جديداً. علينا أن نفتقر برمي منطلقات تفكيرنا القديم لنلبس حلّة جديدة يدفعها الربّ إلينا.
“لكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بكلامٍ يقال إنّما باختبار يوميّ تخضع له الجماعة. كيف تحيا الجماعة أمانتَها للكنيسة الممتدّة عبر التاريخ؟ ذلك مرتبطٌ بفهمها عملَ الروح وبفرحها بالمواهب الناشئة وبثقتها بمن أسّسها والذي لا يزال يعمل فيها كلّ يوم. يبقى الإيمان على الأرض إن كنّا نلبس الحلّة الأولى كلّ يوم، نبدع كلاماً جديداً يحمل معانيَ أدركتها الكنيسة منذ نشأتها، ونقلها إلينا التراث الحيّ. علينا ألّا نغادر زمننا لنعود إلى ماضٍ زيّنه أبٌ معلّم أو قدّيس أو مجمعٌ مقدّس. فحاضرنا يتقدّس باختبار حضور الجماعة الكنسيّة كلّها في كلّ آنٍ، في قوّة الروح التي تكسر عامل الزمن. هذه هي الطفولة التي يدعونا إليها المسيح. إنّها ولادةٌ من فوقُ تحصل كل يوم، فنغتني بنضارة التجدّد وفينا زخمُ تراكمِ عمل الروح منذ فجر العمل الخلاصيّ. لا شكّ في أنّ الروح القدس اليوم يدعونا إلى الاستفادة من كلّ تراثنا الحيّ الذي لا يزال يُكتب كلّ يوم، ومن خبراتنا الغنيّة السابقة، سواءٌ أكانت إيجابيّةً أم سلبيّة. وهي نفسها وُلدت عندما خرج من سبقنا من فقرٍ التمسّك بما “يعلمه ” إلى الغرفِ ببهجةٍ من كنوز الكنيسة. عندما خرج من التكرار وكثرة الكلام الذي حذّر منه الربّ في الإصحاح السادس من إنجيل متّى، إلى ملاقاة الربّ في “كلّ مواضع سكناه”. وما أكثرها!
ايلي كبة