أساس عيد العنصرة هو عيد الخمسين عند اليهود، وهو عيد تسلّم الشريعة (التي هي وصايا الله) مِن قِبَل موسى على جبل سيناء بعد خمسين يوماً من الخروج من مصر. ولأن الربّ يسوع المسيح جاء ليُتمّم الشّريعة، كما قال: “ما جئتُ لأنقُض بل لأُكمِل” (متى ٥: ١٧)، كان لا بُدّ من إكمال عيد الخمسين تمامًا كما اُكمِلَ الفصح.
فالمسيحيّة كمال الوعود والنبؤات الموجودة في العهد القديم. وكما أنّ الفصح الكامل لا يكون بدم تيوس وعجول بل بدم مُخلّصنا يسوع “حَمل الله الرافع خطايا العالم” (يوحنا ١: ٢٩)، كذلك العنصرة الكاملة لا تكون بتسلّم ألواح الشريعة المنقوشة على الحجر بل بتقبّل كلمة الله “مكتوبة لا بحبرٍ بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجريّة بل في ألواح قلبٍ لحميّة…[نحن] خُدّام عهدٍ جديد. لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتُل ولكن الروح يُحيي” (٢ كورنثوس ٣: ٣-٦). الشريعة إذًا ما عادت مكتوبةً على ألواح الحجر بل في قلوب البشر. وهذا ممكنٌ فقط لأنّ كلمة الله الذي نَصَّ الشريعة قد صار هو نفسه بشرًا، فانتقلت الكلمة الإلهيّة من النصوص المكتوبة الجامدة إلى قلوب المؤمنين الحيّة والمُتحرّكة. ولذلك، إتمام عيد الخمسين يكون بنزول الروح القدس على كلّ المؤمنين وليس فقط على النبيّ الوسيط بين الله والشعب. العنصرة المسيحيّة هي التعييد لهذه النقلة بنعمة الروح القدس من العهد القديم الى العهد الجديد.
“لا تبرحوا من أورشليم بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي، لأن يوحنا عمّد بالماء، وأما أنتُم فستُعَمَّدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير” (أعمال ١: ٤-٥). بهذه الكلمات توجّه الربّ يسوع إلى التلاميذ بعد القيامة. ولهذا السبب بقي التلاميذ في أورشليم بانتظار الوعد الذي قطعه لهم يسوع الذي ظلّ يحضر بنفسه عند التلاميذ وهم مجتمعون مدّة أربعين يوماً بين القيامة والصعود.
“ولمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة، فحدث بغتةً من السماء صوتٌ كما من هبوب ريحٍ عاصفة وملأ كلّ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار واستقرّت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أعمال ٢: ١-٤). الروح القدس هو روح الله، أي هو “روح الحقّ الذي من الآب ينبثق” (يوحنا ١٥: ٢٦). والله (الآب) بعدما أرسل كلمته متجسّدًا ليُتمِّم “التدبير” الذي به خَلّص البشريّة من الخطيئة والموت، أرسل أيضاً الروح القدس “المُعزّي” والمقدّس والذي يهب لنا الإبن بواسطة النعمة الإلهيّة. وما “الأسرار الكنسيّّة” سوى احتفال بحلول الروح القدس وتلقّينا بواسطته الربّ يسوع المسيح نفسه لننال به التقديس الكامل. ونحن بأخذنا الإبن والروح القدس نُساهم الله نفسه وهكذا نصير “شركاء الطبيعة الإلهيّة” كما يبشّرنا القديس بطرس هامة الرسل (٢ بطرس ١: ٤).
حَلّ الروح القدس على التلاميذ وعلى جماعة المؤمنين بشكل ألسنة من نار، فصار كلّ الناس يسمعونهم ينطقون بلسانهم أي بلغتهم. ما عادت اللّغة حاجزاً بين الله والناس، ذلك لأنّ اللّغة التي كلّمنا الله بها بيسوع المسيح هي واحدة وهي لغة المحبّة التي وحّدت اللّغات والألسنة واللّكنات واللّهجات بعدما “كلّمنا (الله) بابنه” (عبرانيين ١: ٢).
يسوع هو كلمة الله واللّغة التي يتكلّم بها الله. إذا فهمنا هذه اللّغة نفهم الله. أبجديّة هذه اللغة هي المحبّة. وإن اختلفت الألسن (اليونانية والعربيّة والإنكليزية والسلافونيّة …) تبقى اللّغة الوحيدة التي هي لغة الله معروفة من الكلّ ومنطوقة من الكلّ ومُعاشة من الكلّ: كلمة الله يسوع المسيح الذي عرّفنا أنّ الله محبّة: “بهذا أُظهِرَت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبّة: ليس أنّنا نحن أحببنا الله، بل أنّه هو أحبّنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا” (١يوحنا ٤: ٩-١٠). يسوع هو إعلان محبّة الله لنا ببذله ذاته من أجلنا على الصليب، وهذه المحبّة الإلهيّة هي اللّغة الوحيدة التي نعرفها ونتكلّمها ونفهمها ونحيا بها. كلّ اللّغات والألسن الأُخرى هي برج بابل—بلبلة وكلام لا يشفي. أما كلمة الله يسوع فهي الحياة الأبديّة كما قال الرسول بطرس: “يا ربّ إلى من نذهب وعندك كلام الحياة الأبدية؟” (يوحنا ٦: ٦٨).
عيد العنصرة العظيم المقدّس هو عيد تفعيل الخلاص الحاصل بربّنا يسوع المسيح وتأكيد كلّ الوعود التي قطعها علينا بأن يكون حاضراً معنا وفيما بيننا الى منتهى الدهر. آمين
الدكتور جورج صدقة