عظة الأحد الثاني من لوقا لقدس الأب يونس يونس كاهن كنيسة ميلاد السيّدة- منصوريّة المتن (جبل لبنان)
كَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا… فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ.” (لوقا 6: 31 -36)
يقول القدّيس أفرام السّريانيّ إنّ هذا التّعليم هو كمال العيش في النّعمة. فقِمّةُ العيش في النّعمة الإلهيّة هو إن عشنا بمقتضى الكلام الذي قاله الربّ يسوع في هذا المقطع من إنجيل لوقا. ويتابع موضحًا أنّه في العهد القديم كانت معادلةُ “العَين بالعَين والسّنّ بالسّنّ” قمّةَ العدل بحسب المنطق البشريّ. فأنت تدفع الثّمن على مقدار الضّرر الذي ألحقته بغيرك. هذا هو، بالمنطق البشريّ، العدل الذي تقوم عليه القوانين، ويمكن لهذه القوانين أن تكون قد تطوّرت بحيث أصبحت تريد إصلاح الخاطئ أو المجرم وليس فقط معاقبته. أمّا في العهد الجديد، فما يوصينا به الربّ يسوع هو، كما قال القدّيس أفرام، قمّة العيش في النّعمة.
التّعليمان مصدرهما الله، يؤكّد قدّيسنا. ففي العهد القديم الوصيّة “العين بالعين والسّنّ بالسنّ” هي من الله، ولكن هذه كانت الإنطلاقة. فالربّ، كما تلاحظون إن نظرتم إلى العهد القديم وحتّى العهد الجديد، يرافقنا، يرفعنا شيئًا فشيئًا لنصل إلى التّعليم الكامل، لأنّه، كما قال الرّسول بولس، هناك أوقات لا يستطيع المرء أثناءها أن يأكل اللّحم، فنطعمه الحليب، نطعمه اللّبن حتّى ينمو. ومتى نما، يأخذ التّعليم الكامل. وهكذا في العهد القديم كان عندنا العدل البشريّ، أمّا في العهد الجديد، فنحن نعيش بمقتضى النّعمة الإلهيّة. وهذه النّعمة هي القاعدة الذّهبيّة التي أعطاها يسوع “َكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا.” فالمسيحيّ هو المبادِر بالمحبّة، وليس الذي يعيش على ردّات الفعل، ليس الذي يعيش على المقابلة بين: كيف تتصرّف معي أتصرّف معك، إن آذيتني أؤذيك، إن أفدتني أفيدك، إن ساعدتني أساعدك، إن عزّيتني أعزّيك، إن خدمتني أخدمك … هذا المنطق الذي إذا حاسبنا أنفسنا عليه، يُمكن أن نرسب كلّنا، لأنّ منطق المبادلة ومنطق العدل البشريّ هو الذي لا يزال يحكم سلوكنا وتفكيرنا وتعاطينا مع بعضنا البعض. قد لا يكون الجميع هكذا، ولكنّنا في معظم الأحوال نحن نردّ الفعل بفعلٍ مثله، نتعاطى بهذه المبادلة. بينما يقول لنا الربّ إنّه إن أدنت من تعرف أنّه سيردّ لك الدَين فأين فضلك؟ فالخاطئ هكذا يفعل. وإن ساعدت من تعرف أنّه سيساعدك، فالخطأة يفعلون هكذا، وإن أحببت من يحبّك فالخطأة يفعلون هكذا أيضًا. فإن أنت بقيت هنا، على هذا المستوى، فأنت والخطأة متشابهون. هذا يعني أنّه أنت ومن لا يؤمن بيسوع المسيح على حدّ سواء. إذًا، إن كان وجود يسوع المسيح في حياتك لم يؤثّر بشيء، فهذا يعني أنّ الربّ غير موجود في حياتك. هذه خلاصة الكلام، هذه خلاصة التّعليم.
بينما يقول الربّ إنّه يجب أن تديّنوا من لن يردّ لكم الدَّين. هنا يسأل الواحد منّا عن ماهيّة هذا الدَّين، فالدَّين الذي لن يُستوفى، لا يُسمّى دَينًا. ولكن الربّ يصرّ أن يسمّيه كذلك. هنا يقول لنا القدّيس باسيليوس الكبير إنّ هذا الفعل، فعل أن تعطي، أن تُقرض شخصَا لن يردّ لك الدَّين، له اسمان: هو دَينٌ وهو هديّة في الوقت نفسه. هو هديّة بالنّسبة للشّخص الذي لن يردّه؛ وهو دَين بالنّسبة لله الذي يأخذ منك أشياء تافهة، إذ إنّك مهما أعطيت لهذا الإنسان الذي يطلب المساعدة، مهما أعطيت، تبقى عطاياك تافهة أمام الربّ، ولكنّه يردّها أضعافًا مضاعفة. ما يردّه لك الله لا تستطيع أن تقارنه بما أعطيته أنت. إذًا هو هديّة لمن يتلقّى وهو دَين للربّ.
بالإضافة إلى ذلك، المخيف في هذه العمليّة هو أنّها تشبه عمليّة طلب شخصٍ لا تعرفه أنت أن تديّنه، ويأتي شخصٌ معه ليكفله. يقول لك الكفيل: “أنا مسؤول. أنت أعطه المال وأنا مسؤول أنّ حقّك يعود إليك”. إذا رفضت أن تعطي المال لهذا الشّخص، ماذا يشعر الإنسان الذي أتى يقول لك إنّه كافله/ضامنه؟ سيشعر إمّا أنك لا تصدقّه، إمّا أنك لا تصدّق أنّه يقدر أن يكون كفيلًا، أنّه يقدر أن يردّ الدّين. هكذا يصير مع الله عندما لا نعطي أحدًا غير قادر أن يردّ الدَّين. الله هو الكفيل. الله يقول لك إنّه هو الكفيل. دَينك يعود إليك أضعافًا مضاعفة. تقول لا؟ ترفض أن تساعد هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يردّ لك الدَّين؟ إنّك بذلك تهين الله. هنا المفارقة في المسيحيّة. هذا هو الأمر المخيف. فالموضوع ليس فقط أنّك لم تصنع الخير، ليس فقط أنّك لم تضرَّ أحدًا، لم تعتدِ على أحدّ، لم تسرق، لم تقتل لم تنهب. الموضوع أنّك لم تبادر بالمحبّة. عندما لا تبادر بالمحبّة فهذا يعني كأنّك تقول إمّا أنكّ لا تصدّق الله، إمّا أنّه لا يستطيع أن يكون على مستوى كلمته. وهذا يعني أنّه غير موجود. هذا يعني أنّك تنكر وجود الله عندما تمتنع عن فعل المحبّة للإنسان الذي لا تعرفه. من تعرفه لا فضل لك إن أدنته لأنّك ضامنه، أنت ضامنه. من لا تعرفه، الله هو ضامنه، ساعتئذٍ تكون العلاقة بينك وبين الله وليس بينك وبين هذا الإنسان. ابنك، أخوك، قريبك، هذا تعرفه، تعرف ماذا له، تعرف ماذا سيفعل، العمليّة مضمونة. ولكن العمليّة غير المضمونة هي التي تأتيك بالنعم الإلهيّة التي لا تُحصى.
هذه هي المسيحيّة بكلّ بساطتها، ولكن أيضًا بكلّ صعوبتها. لا نستطيع نحن أن نهرب من هذا التّعليم. إلهنا هكذا صنع، إلهنا أوصى بهذا. قدّيسونا هكذا فعلوا، قدّيسونا هكذا أوصوا. لا عذر لنا أن نقول إنّنا لا نعرف، ولا عذر لنا أن نقول إنّ هذا الأمر صعبٌ ولا يمكن القيام به، لأنّه قد نُفِّذ ومورس، وعندنا كلّ هذه الأيقونات تدلّنا أنّنا محاطون بسحابة من الشهود الذين عاشوا بموجب هذه الكلمة.
هذه هي الحياة في النّعمة الإلهيّة التي يقول عنها أيضًا القدّيس أفرام السّريانيّ: “أرجو الله، أطلب من كلّ قلبي أن يختبر كلّ واحدٍ منكم هذه النّعمة. من كلّ قلبي أصلّي أن يعيش كلٌّ منكم هكذا ويلمس ساعتئذٍ نعمة الله في حياته منذ الآن، ليس في اليوم الأخير، يلمسها الآن، يعيشها الآن ويمجّد الله ويعيش في الفرح، يعيش في التعزية، ويعيش في الراحة والسّلام لأنه يحيا في رضى الله في كلّ آن وزمان