ولدت أنيسيّة لأبوَين غنييّن شريفَين في تسالونيكية اهتديا إلى المسيح وربّياها على محبّة الحكمة والفضيلة. فلمّا بلغَت عتبة المراهقة رقدا في الرّب. تركا لها أموالًا طائلة، لكنّ وقع الصدمة عليها كان شديدًا. ولمّا كانت قد تربّت على محبّة المسيح وحفظ وصاياه، أضحت الحياة لها المسيح والموت ربحًا (فيليبي 1 :21). فأعتقت عبيدها وزوّدتهم بما يحتاجون إليه من المال لتدبير شؤون حياتهم. كما وزّعت ما بقيَ لها من ممتلكات وحقول وقطعان وميراث على الفقراء والمحتاجين. لم تحتفظ لنفسها بشيء. حتّى ثيابها وحلاها نبذتها ووزّعتها يمينًا ويسارًا. أحبّت أن تكون حرّة من كلّ ما يمكن أن يقيّدها إلى هذا الدهر. فلبست ثيابًا عاديّة خشنة وأخذت تجوب المدينة تزور المرضى وتُعين الأرامل والأيتام وتجمع الطعام واللّباس للفقراء. أمّا معيشتها هي فبدأت تحصّلها من شغل يديها. عُمر الشباب في عينيها كان عبئًا، لسان حالها كان: “باطلة هي الفتوّة لأنّك فيها تُعثر الآخرين أو يُعثرك الآخرون. الشيخوخة خير من الفتوّة! كم أنا حزينة لطول الوقت الذي يفصلني عن السماء!”.
أخذت أنيسية على عاتقها زيارة المساجين المعترفين من الذين طالتهم يد الاضطهاد. ومن عِشرة المعترفين والشهداء، اشتهت أن تكون لها شِركة في شهادة الدم للمسيح. هذا ما يشتهيه الزاهدون المفتقرون من أجل المسيح؛ يتأجّج فيهم الشوق إليه ويتوقون إلى بذل ما بقي لهم ذبيحة وقربانًا: أجسادهم! ولكن، هذه نعمة من عنده تعالى، يهَبها لمن يشاء ويُمسكها عمّن يشاء، والله علّام القلوب!.
أقامت أنيسية على هذا الرّجاء تزرع الرّحمة من حولها، مجدّة في الأصوام والدّموع والأسهار والصلوات. لا شيء عطّل عزمها. وحلّت الساعة التي أتاحت لأنيسيّة أن تمجّد الله وتبذل نفسها لعريسها السماويّ. عنفت موجة الاضطهاد على المسيحيّين من جديد في أيّام الإمبراطور الرومانيّ مكسيميانوس، سنة 305 ميلاديّة. في تلك الأثناء، حدَث أنّ أنيسيّة خرجت تروم الصلاة في الجماعة. وإذ عبرت بما يُعرف بباب كاسندرا، دنا منها أحد الحرّاس الإمبراطوريّين بعدما اشتهاها لنفسه، وتحرّش بها فصدّته ورسمت على نفسها إشارة الصليب. فشعر الجنديّ الوقح بالمهانة وسألها: “مَن أنت وإلى أين أنت ذاهبة؟!” فأجابته بلا ترددّ ومن دون خوف: “أنا خادمة ليسوع المسيح وذاهبة لأصلّي مع الجماعة!” فكان كلامها في أذنَيه سلاحًا استعمله ضدّها عسى أن ينال بواسطته ما رغبت به نفسه منها. فقال لها: “لن أسمح لك بذلك وسآخذك إلى الهيكل لتضحّي للآلهة. اليوم يوم عبادة الشمس!” وإذ تفوّه الجنديّ بهذا الكلام مدّ يده وانتزع منها المنديل بحركة خاطفة، فعنّفته وبصقت في وجهه، فاغتاظ واستلّ سيفه وطعنها، وقيل جرّرها إلى الهيكل جرًّا وحاول إجبارها على التضحية للوثن، فتطلّعت إليه وبصقَت في وجهه، فضربها بالسيف فسقطت صريعة لتنضمّ إلى ركاب الأبكار السماويّين وتحظى بإكليل الغلبة.
هذا وقد ذُكر أنّ رفات القدّيسة أنيسيّة كانت تفيض طيبًا زكيّ العَرف يشفي الآم البشر المتنوّعة. والكنيسة تنشد لها الأنشودة المعبّرة التالية: “أيّتها الدائمة الذكر أنيسيّة، إنّك لمّا بدّدت الغنى، وكفيت الفقراء، حصلتِ عروسًا عادمة الفساد للخالق. وقدّمت له مجاري دمائك كجهاز، وماثلته في الآمه التي كابدها، فأسكَنك في الخدر الإلهيّ، كشهيدة لابسة الجهاد. تعيّد لها الكنيسة شرقًا وغربًا في هذا اليوم واسمها وارد في مينولوجيون الإمبراطور باسيليوس، في القرن التاسع الميلادي، أيضًا في الثلاثين من شهر كانون الأوّل.
طروبارية عيد الميلاد
ميلادك أيّها المسيح إلهنا قد أطلع نور المعرفة في العالم لأنّ الساجدين للكواكب به تعلّموا من الكوكب السجود لك يا شمس العدل وأنّ يعرفوا أنّك من مشارق العلو أتيت يا ربّ المجد لك.
طروبارية القدّيسة أنيسية
نعجتكَ يا يسوع تصرخ نحوك بصوت عظيم قائلة: يا ختَني إنّي أشتاق إليك وأجاهد طالبةً إيّاك، وأُصلَبُ وأُدفن معك بمعموديّتك، وأتألّم لأجلك حتّى أملك معك، وأموت عنك لكي أحيا بك. لكن كذبيحةٍ بلا عيبٍ تقبّل أنيسية الّتي بشوقٍ قد ذُبحت لك. فبشفاعاتها أيّها المسيحُ الإلهُ خلّص نفوسنا.