سيّدي،
“يا عماد، الله ليس عمادٌ سواه”
كلماتٌك القليلةُ هذه، الفريدةُ والعميقةُ في معانيها، أتذكّرها كثيرًا وأسترجعها يوميًّا منذ ما يقارب الأربع سنواتٍ، وما زلتُ أتعلّم منها، وبك يا سيّدي، نعم بك، وبها أتشدّد. كيف لا وأنا على يقين أنّها ليست كلماتٍ بشريّة، دهريّة، أرضيّة، بل كلمات الرّوح النّاطق فيك وعبرك في مسيرتك الاستثنائيّة على مدى سنوات طوَت المئة أوّل أمس.
فاجأني يومها الأخ الحبيب طوني عبدو (الشمّاس لوقا) بما أغبطني كثيرًا، وكنتُ في زيارة له في المطرانيّة، قائلًا لي: “إذا بتحب بتقدر تزور سيّدنا جورج وتحكي معو”.
“صعدنا” سيّدي للقياك، وما أحلاهُ لقاءٌ ملأنا بالبركات والنّعم، وبالفرح الكبير الذي عبر إلينا من الصّفاء والنّور الثابتَين فيك وعلى وجهك، ومن الكلمات الّتي نزلت إلينا “من فوق” عبرك. سألك طوني كلمةً لِـعماد” فقلتَ توًّا كلماتك لتعلِّمني درسًا بليغًا وعميقًا بأن “الله ليس عمادٌ سواه”.
سيّدي،
حدثُ “مئويّتك”، عندي، كما عند كثيرين، هو حدثٌ أنطاكيٌّ كبيرٌ وهو طبعًا حدثٌ إستثنائيّ، لأنّه مئويّة شخص إستثنائيّ. وليس مستغربًا أبدًا الشّكر الّذي يرفعه أبناء أنطاكية للربّ على معاصرتِهم جورج خضر، المؤمن، النهضويّ، الخادم، الكاتب، الأديب، المكرّس، المطران، القياديّ، المنفتح، الشّاهد للحقّ أبدًا…
يدفعني “الحدث” الى إسترجاع الكثير الكثير من محطّاتٍ ومناسباتٍ وكتاباتٍ ومواقفَ نبويّةٍ صارخة تكشف أهميّة جورج خضر في مسيرة الأنطاكيّين وكلّ المشرقيّين وغيرهم. ثلاثةٌ نماذج منها، في يوم مئويّتك، تُدخل الفرح إلى القلب وتمنح رجاء وثباتًا واطمئنانًا.
+ تُراثك الفكريّ
تراثك الفكريّ الكنسيّ النهضويّ، الواسع والشّامل، المحيي والمحفّز والمغيّر لحياة الآلاف على مدى أنطاكية وغيرها، ليلتزموا “الطّريق والحقّ والحياة”. ليس أدَلُّ على ذلك من شهادات تتكرّر من كثيرين كيف غيّرت حياتَهم كلماتُ الذّهبي اللّسان جورج خضر في مقالاتك الأسبوعيّة في نشرة رعيّتي وجريدة النهار، في عظاتك ومحاضراتك، في الّلقاءات والنّدوات والمؤتمرات، وفي كتبك وسائر منشوراتك ومساهماتك الغزيرة والمباركة الّتي، بنعمة الرّوح، ستُحفظ إلى سنين عديدة لتبقى، كما كاتبها، نورًا مضاءً قدّام النّاس، «فيروا أعمالكم الصّالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السّموات».
+ محبّتك للفقراء
“الفقراء والمساكين هم أسيادنا”. موقفٌ صارخُ أعلنته فكرًا وجسّدته حياةً، وكنت تكرّر دائمًا أنّك لا “تحسن مجالسة الأغنياء”. أذهلني منذ أيّامٍ ما رواه لي، وكنت مع أحد الأحبّة، أحد رؤساء الأديار عن عطاءين كبيرين مذهلين و”عجائبيَّين” قدّمتهما بفرحٍ وإنسحاقٍ لاثنين من “أسيادك الفقراء” عندما لجآ إلى ربّهما عبرك، وكانا أمام صعوبات صحيّة بالغة الخطورة.
.
أوّلهما جاءك وهو بحاجة ماسّة لعلاج تبلغ كلفته ١٥,٠٠٠ $. لم تفكّر كثيرًا فاستدعيتَ مساعدتك وسألتها «كم من المال لدينا في المصرف؟” أجابتك: ١٧,٠٠٠$. أوعزت لها فورًا بإصدار شك بقيمة ١٥,٠٠٠$. تردّدت كثيرًا هي لأنّ المال الباقي لن يغطّي مصاريف المطرانيّة ورواتب الموظّفين فيها. لكنّك أصرّيت على طلبك وكان لك ما أردت. وفي الغد أتاك رسول من الله يحمل لك في جعبته شك بقيمة ٣٠ّ,٠٠٠$. وما هذا سوى دليل قاطعٌ على أنّ كلمة ربّنا القائل أرد لكم أضعافًا هي حيّة وفاعلة في كلّ كيانك.
وثانيهما جاءك طالبًا 50,000 $ لإجراء عمليّة معقّدة وصعبة. أجبته حالُا: أوافق أن أساعدك ولكن ليس لديّ المال الآن، ومتّى توفّر أساعدك فورًا. وطلبت منه أن يترك رقم هاتفه مع مساعدتك. وصل إلى المطرانيّة بعد أقلّ من ساعة رسالة فيها تبرّع للمطرانيّة بشك قيمته 50,000 $. أوعزت فورًا بالاتّصال به، فعاد مستغربًا قائلًا لك: منذ ساعة قلت لي ليس لديك المال. أجبتّه: لم يكن لديّ، والآن أصبح لديّ. وحوّلت الشك لإسمه! وهذا، يا سيّدي، يدلّ على تدخلٍ إلهيٍّ عبرك، وعلى حضوره في حياتك أنت المتكّل دائمًا على رحمته الكبيرة.
+ ثباتُك في الحقّ
ثباتك في الحقّ وشهادتُك الدّائمة للحقيقة في قضايا عديدة واجهت فيهما، بجرأة وصلابة وحريّة المؤمن، الظّلم والقهر والفساد والطّغيان، حتّى ولو كان ذلك في وجه أممٍ ودولٍ كبرى مهما عظمت وازداد شرّها ومخاطره.
سيّدي،
أنطاكية اليوم تنحني وتصلّي، في مئويّتك، على نيّتك شاكرةً ربّها على “من حبانا الله به أن يكون شاهدًا على نعمة الله في حياتنا، ورافعًا إيّانا في صلواته، ومعلّمًا لنا بالقدوة والمثال والكلمة”.
حفظك الله إلى سنين عديدة وأنت مثالٌ لنا تنبّهنا وتذكّرنا بإصرار وشدّة أنّ الربّ هو الألف والياء، مكرّرًا، كلّما تكلمت، أنّك “تريد أن تعرف يسوع” وأنّ ما ينقصك هو “أن تتوب”.
مسيرتك، سيّدي، وكلماتك تأكيد دائم وثابت على توبةٍ مستمرّة علّمتها من خلال حياتك، وعلى أنّ “الله ليس عمادٌ سواه”.