فيما نقف مع متروبوليت جبيل والبترون السّابق سيادة المطران جورج خضر، وقد اجتاز، بمنٍّ من الله ورعايته، حاجز السّنة المئة، نبحر معه في القرن الثّاني من سنواته. وفيما أنعم الله علينا أن نستفيد من علمه الغزير، وأن نجلس إليه ناصتين لنزداد معرفةً وإخلاصًا لعروس المسيح، أمّنا الكنيسة الأنطاكيّة، وقد تسرّب إليها الوهن والجهل من ضعف أبنائها وخطاياهم وإهمال المسؤولين فيها وكسلهم، تجنّدنا معه لخدمتها بغية بهائها ونهضتها.
هو ما كَلَّ يومًا من الوعظ وشرح العقيدة. وقد ثابر على نثر الكلمة الإلهيّة، كتابةً وقولًا، فغدا للشّباب الأرثوذكسيّ في أنطاكية والعالم مدرسةً نهلوا من مجاريها العلوم الإلهيّة، فتدرّبوا على يديه على أصول الحياة في المسيح.
وهذا ما يجعلنا في حال الشّكران، وأيادينا ضارعة وقلوبنا منسحقة، نقول ونردّد “أوقفْنا العدّ”*. وعدّ السّنوات هو حساب الأيّام واللّحظات التي يقضيها المرء والعقلُ راجحٌ والقلبُ خاشعٌ. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن سيادة المطران لمّا توقّف عمله الإداريّ لم ينقطع عنده حبل التضرّعات ورفع الصّلوات ومناجاة الحبيب الّذي تبتّل له، وأوقف له عواطفَ القلب ونشاطاتِ العقل وتأجّجَ الشّوق والحنين. “تشتاق نفسي وتتوق إلى ديار الرّبّ. قلبي وجسمي ابتهجا بالإله الحيّ…كذلك أنا أتوق إلى مذابحك يا ربّ القوّات يا ملكي وإلهي.” (مزمور 83: 2و3) و”حنّت نفسي اشتياقًا إلى خلاصك. أنا توكّلت على كلامك. كلّت عيناي من تشوّفي إلى كلمتك قائلتين: متى تعزّينا؟” (مزمور 118: 81و82). والجدير بالذّكر أنّ السّاهرين على راحة المطران يتلُون على مسامع سيادته ، بناء على رغبته، مقاطع من كتاب المزامير ساعةَ لا يشغله زائر أتاه متبرّكًا، ولا تلهيه حاجة.
تحوّل اليوم سيادته إلى نجيّ الله. توقّف عنده عدّ السّنين لأنّه انتقل إلى حال الزّمن الّذي لا ساعات فيه لتُحصَى، وهو زمن الهذيذ والمناجاة، هو ذوق الأبديّة التي انتقل إليها، قبل الانتقال، معلّم أنطاكية وملهم شبابها. تأبّد الزّمن عنده إذ صار في زمن الله الّذي لا ثواني فيه ولا دقائق ولا ساعات ولا أيّام ولا سنوات لتُعَدّ. وفي هذا الزّمن يخلع صفيّ الله عنه عتاقتَه وينعم بالجدّة الدّائمة التي يذوقها مع الله، ومعهما يشترك ساكنو ملكوت السماوات جميعهم. وقد قاد سيادتُه الكثيرين منهم، بالكلام والمثال، إلى الدّخول إلى هذا الملكوت منذ شبابه حتى الأيام الأخيرة التي يقضيها.
وكلّنا نعرف أنّ ملكوت السّماوات قد أتي في التجسّد والفداء. “توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السماوات” (متّى3: 2)، يقول يوحنّا السّابق مشيرًا إلى حضور المسيح بالجسد. ومَنْ مِنَ الأنطاكيين لا يعرف أنّ جورج خضر، شابًّا وراهبًا وقسًّا وأسقفًا، قد شغله بالدّرجة الأولى همُّ أن ينهد الأرثوذكسيّون إلى الملكوت بالتّوبة والاستنارة والجهاد والحبّ؟
من هنا بإمكاننا أن نتوقّف ونستفيض في الحديث عن مرحلة شبابه يوم استجاب هو وصحبه الخمسة عشر لإلهامات الرّوح وأسّسوا حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة. ولا ننسى أنّ همّ تقديس الجماعة قد لازمه في مرحلة رعايتِه خراف الميناء النّاطقة فدأب على الوعظ والتّعليم. ولمّا تربّع مطرانًا على جبل لبنان منذ شباط 1970 استمرّ الهمّ هو هو. ومن تلك الفترة حتّى الزّمن الحاضر رأيناه يتصدّى، بلا كلل أو ملل، للتطوّر الديمغرافيّ الّذي عرفته أبرشيّته إبّان الحرب العبثيّة اللبنانيّة. وقد تطلّب منه ذلك أمرين واجههما بمسؤوليّة وأمانة. الأمر الأوّل هو إعداد رعاة أكفّاء للرّعايا، والأمر الثّاني هو تأمين دور عبادة يقصدها المصلّون المتكاثرون. في هذا الواقع المستجدّ واجه مطراننا المتغيّرات وهمّه هو هو، أن يسكن أبناؤه ملكوت السّموات الّذي يذوق الآن قبل أن يسمح الله له أن يقيم فيه مع المختارين.
* “أوقفْنا العدّ” تعبير شاع بعد اتّفاق الطّائف وردّده اللّبنانيّون مشيرين إلى تمسّكهم بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين في إدارة شؤون لبنان السياسيّة والإداريّة.