لا نعرف تمامًا متى عاش القدّيس باطابيوس. بعض الدّارسين يجعل رقاده في القرن السابع الميلادي. وُلد في صعيد مصر لعائلة تقيّة. خرج إلى الصحراء في سِنّ مبكر لا يدري كيف يتدبّر ولا ماذا يعمل ولا إلى أين يتّجه. وإذ ألقى باطابيوس بنفسه في أحضان الصحراء ظنّ، بكلّ بساطة، أنّه إنّما يلقي بنفسه، بالإيمان، في أحضان الله الحيّ. ولم يخيّبه ربّه، تلقّف عبده برحمته ورعاه بحنانه، فنما باطابيوس في النّعمة والقامة وتكمّل في الهدوء وكلّ فضيلة وماثل المعلّم في الوداعة وتواضع القلب، فمَنَّ عليه المعلّم بمواهب جمّة حتّى صار منارة لكثيرين ومشفى لأدواء العديدين.
وسطَعَ نور الرّب في عبده فاهتدى إليه النّاس وصاروا يتدفّقون عليه. وخشيَ باطابيوس، من كثرة المقبلين إليه، أن يخسر سيرة الهدوء والصلاة المستمرّة ففكّر بالانتقال إلى مكان آخر لا يدري بأمره فيه أحد. ولكن، إلى أين؟ إلى عمق الصحراء؟ كلّا، بل إلى عمق المدينة وصحراء الغربة فيها، إلى المدينة المتملّكة، القسطنطينيّة! هذا ما أوحت به إليه عناية ربّه، فانتقل إلى موضع قريب من كنيسة السيّدة في ناحية بلاشيرن المعروفة في قلب القسطنطينية. نَعِم بالهدوء في” برّية القسطنطينيّة” ردحًا من الزّمان. عاد لا يبالي بالكلّية لا بطعام ولا بلباس. صار كملاك في الجسد. وقد تقدّم في صلاة القلب إلى حدّ أنّه تمكّن، بنعمة الله، من الارتقاء إلى السموات ومعاينة القوّات العلوية تمجدّ الله على الدوام.
يُحكى أنّ شابًا تقيًّا فاضلًا كان أعمى منذ مولده. هذا سمع بفضائل القدّيس ونعمة الله عليه. فقدِم إليه وأخذ الشابّ يصرخ إلى القدّيس: “ارحمني يا ابن النور والنعمة، ارحمني باسم الرّب! أنِر عينيّ لأتمكّن، أنا غير المستحقّ، من رؤية خليقة الله وشُكرِه عليها!”. فتحنّن عليه القدّيس ورثى لحاله. وإذ عرف بروحه أنّ له إيمانًا ليُشفى، سأله، عن تواضع، مريدًا أن يعطي المجد لله: “ما الذي تراه فيّ، يا بنيّ، لتسألني أن أشفيك مع أنّ الله وحدَه الشافي؟”. فأجابه الشاب بدموع: أنا واثق يا أبي أنّك قادر أن تفتح عينيّ لأنّك خادم لله! إذ ذاك رفع القدّيس صوته قائلًا له: باسم الرّب يسوع المسيح الذي يردّ البصر للعميان ويقيم الموتى ليعُد إليك نور عينَيك! فلمّا قال هذا، انفتحت للحال عينا الأعمى وأبصر كلّ شيء من حوله بوضوح. فمجّد الله بفرح عظيم، وكذا فعل الحاضرون، وتعجّبوا بالأكثر لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الانسان الذي جرت له الآية أعمى منذ مولده. ولمّا قال قدّيس الله هذا، سقط الشاب أرضًا وخرج منه الرّوح الخبيث كغيمة دخان. فبكى الشاب من الفرح ومجّد الله وشكر قدّيسه.
كان رقاد القدّيس، كما يبدو من سيرته، في أحد الديورة لأنّ الذين اجتمعوا إليه ليودعوه كانوا من النسّاك. كانوا شديدي الحزن على قرب مغادرته لهم. فما كان منه سوى أن عزّاهم وكلّمهم عن الحياة الأبديّة وسألهم الصلاة عنه وعن أنفسهم. ولمّا استكمل كلامه، استودع روحه بين يدي الله بسلام وفرح. وقد دُفِن في كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان. يَذكر بعض الدارسين أنّ رفات القدّيس باطابيوس ضاعت في القرن العاشر للميلاد، وبقيت قرونًا طويلة لا يدري بأمرها أحد إلى أن جرى الكشف في كنيسة دير صغير في قمة جيرانيا، فوق لوتراكي القريبة من مدينة كورنثوس، عن رفات قدّيس اسمه باطابيوس ظُنَّ أنّه إيّاه من نحتفل بعيده اليوم. هذا حدث سنة 1904 م. ويُقال إنّ الرّفات كانت كاملة وكأنّ صاحبها دُفن هناك. وقد خرجت منها رائحة طيب سماويّة وكان بقربها جِلد كُتب عليه اسم القدّيس صاحبها. ولكن كيف وصلت رفات القدّيس إلى قمة جيرانيا؟ هل يعقل أن يكون قد رقَد ودُفن في هذا الدير الصغير؟ ربما هو قدّيس آخر يحمل الاسم نفسه! كلّ هذا مطروح للبحث. ويبقى أنّه منذ أن تمّ الكشف عن الرّفات أجرى الله بها عددًا من الأشفية ، فصار المكان محَجّة. وقد نشأت فيه شِركة رهبانيّة نسائيّة سنة 1953 ما زالت مزدهرة إلى اليوم.
طروبارية القدّيس باطابيوس
لنكرِّمنَّ بالتسابيح الشريفة، باطابيوسَ المتوشحَ بالله، عِزَّ لوتراكي وفَخر كورنثيا، ومصباح جرانيا، لأنّه يمنح الأشفية الغزيرة للمبادرين بإيمان، إلى جرن بقاياه هاتفين: المجد للمسيح مَن مجَّدك، المجد لمَن جعلكَ عجائبيًّا، المجد للفاعل بك الأشفية للجميع.