سعى يوحنّا، منذ مطلع زُهده لأن يسلك في غُربة عن نفسه وعن عالمه، همُّه الإنفصال عن كلّ شيء ابتغاءً لقربى ليس ما يشوّشها إلى ربّه. وشرع، بلا همّ، يرتقي سلّم الفضائل، مسلِمًا ذاتَه، في الجسد والرّوح، إلى شيخ اسمه مرتيريوس. هَمّ يوحنا الأوحد أضحى أن يتخلّى عن مشيئته الخاصة.
رغم حداثة سِنّ يوحنّا، فإنّه أبدى نضجًا على قامة الشيوخ وكان على تمييز كبير. مثل ذلك أنّه أُرسل يومًا في مهمّة وإذ جلس إلى المائدة وبعض العاميّين، آثر أن يستسلم لبعض المجد الباطل وأكل قليلًا مفضّلًا ذلك على الشراهة لأنه ميّز ما هو أقل خطرًا عليه كراهبٍ حدَث. لمّا رقد معلّمه في الربّ بعد تسعة عشرة عامًا من السلوك في الطاعة، قرّر مواصلة ارتقائه في الوِحدة. بعدما ترسّخ في الاتّضاع، واعتمد في ذلك على نصيحة شيخ قدّيس يدعى جاورجيوس، الذي أطلعه على نمط الحياة الخاصّ بالهدوئيّين.
فاختار يوحنّا موضعًا معزولًا يبعد خمسة أميال عن الدير الكبير، ولازمه أربعين سنة مشتعلًا بحبّ الله المتنامي في قلبه. أبدًا لم يشغله خلالها شيء غير الصلاة المتواترة ويقَظة القلب كمثل ملاك في الجسد.
طعامُه كان طعام الرّهبان. على هذا النحو أخضَع طغيان الجسد دون أن يعطي المجد الباطل أيّة ذريعة. وعرَف، بنعمة الله، أن يقوى على الضجر والتهاون بذكر الموت. وعرف كيف يتصدّى للحزن، ويبدّده بالتأمل في الخيرات العتيدة. وخنف المجد الباطل بالاعتزال، وبالصمت خصوصًا. وأسبغ عليه الربّ الإله مَلَكة الفضائل التي هي التواضع الثمين المقدّس. وبفضل الحزن المغبوط والدموع المتواترة كان كلّ يوم من أياّمه عيدًا، وكان يحفظ الصلاة المستمّرة في قلبه الذي أضحى شبيهًا بحصن تعجز هجمات الأفكار عن اختراقه. وبحرّية بالغة كان يطلب من الله أن يلقّنه اسرار اللّاهوت. وكانت لصلاة يوحنّا قدرة على شفاء الجراح المنظورة وغير المنظورة. ومَنّ عليه الرب بموهبة التعليم الروحيّ. غير أنّ هذا التعليم الروحيّ أثار حسد البعض فروّجوا بشأنه إشاعات مغرِضة واتّهموه بالثرثرة ومحبّة المجد الباطل. لم يسعَ إلى تبرير نفسه. توقّف سنة كاملة عن التعليم. وأبى أن يعود إلى الكلام إلّا بعدما أصرّ عليه الذين أساؤوا إليه راجين تائبين أن يسمح باستقبال الزوّار لديه من جديد.
ولمّا أكمل قدّيسنا تلك السنوات الأربعين من إقامته في البرّية كموسى آخر، اختير رئيسًا للدير. وقد أكّدت الأيام أنّ يوحنا كان لخراف دير سيناء راعيًا ممتازًا وطبيبًا خارقًا ومعلّمًا كفؤًا يحمل في نفسه الكتاب الذي وضعه الله فيه حتى لم يعد في حاجة إلى كتب أخرى يلقّن رهبانه بواسطتها عِلم العلوم وفنّ الفنون. عندما بلغ يوحنا أيّامه الأخيرة، عيّن أخاه جاورجيوس الذي اقتبل الحياة الهدوئيّة رئيسًا للدير. وإذ كان على وشك المفارقة قال له جاورجيوس: ها إنّك تتركني وتذهب وقد صلّيت إلى الرب الإله أن ترسلني إليه قبل رحيلك، فأنا من دونك لا طاقة لي على رعاية هذا القطيع. فأكّد له يوحنا: لا تحزن ولا تقلق. إذا وجدتَ نعمة لدى الله فلن تمضي سنة عليك من بعدي. وبالفعل لم تمضِ على وفاة يوحنا ستة أشهر حتّى انضّم جاورجيوس إليه.
طروبارية القدّيس يوحنا
للبرّية غير المثمرة بمجاري دموعك أمرعتَ، وبالتنهُّدات التي من الأعماق أثمرَت بأتعابك إلى مئة ضعفٍ، فصرت كوكبًا للمسكونة متلألئًا بالعجائب، يا أبانا البارَّ يوحنّا، فتشفّع إلى المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا.