كانت فضيلة أرسانيوس سامية وقد جعلته معادلاً للملائكة. وقد كان ارتفاعه ساميًا بمقدار عنايته بالسّلوك في تواضع القلب. صمد في قوّة فائقة وصبر لا يقهر، في معاركه وأتعابه في حياة التوحّد. كان مواطنًا رومانيًّا من عائلة امتازت بنُبلها وغناها. برَعَ في العلوم وكان من أبرز علماء إيطاليا في اللّغة اليونانيّة واللّاتينيّة وبقيّة العلوم. فاستقدمه الإمبراطور ثيودوسيوس ليكون مربّيًا لأولاده. فكانت له مكانة رفيعة في القصر، فجعله الإمبراطور في رتبة الشيوخ وأعطاه لقب البطريق. لم يسمح الله لكرامات هذا الدهر أن تُبهر عبده فوق الحدّ إذ ترك له أن يتبيّن بطلان هذا الألق. وكانت النعمة الإلهيّة تحرّك فيه خوفًا شديدًا على خسران نفسه. لذا كان يلقي بنفسه عند قدمي الله ويذرف لديه الدمع ويرفع الصلاة سائلاً إيّاه بصدق كبير أن يعرّفه بما عليه أن يفعله ليخلص. وإذ به يسمع صوتًا يقول له: “فرّ، يا أرسانيوس، من صحبة الناس فتخلص”. فقام سرًّا وارتحل. وجاء إلى كنيسة المتوّحّدين في برية الإسقيط. وسألهم أن يقبلوه في عدادهم، فاستبان لهم شخصيّة مرموقة. في حين حاول إخفاء هويّته، وقال إنّه غريب جاء يطلب الخلاص. فأخبر الرّهبان القديس يوحنا بأمره، فمدّ لهم مائدة وجالسهم إلّا أرسانيوس، وكان هذا امتحانًا له، تركه في وضعيّة مهينة، ثمّ أخذ يوحنّا خبزة وألقاها على الأرض وقال له بلهجة لامبالاة فيها: “كُل إذا شئتَ”. للحال جعل أرسانيوس نفسه على أربعة واتّجه نحو الخبزة ليأكلها وهو في هذه الوضعيّة. فجعلت هذه الوداعة النادرة القدّيس يوحنا يدرك صلابة أرسانيوس وعزمه على اقتبال الحياة النُسكيّة. وفي فترة قصيرة، حقّق تقدمًّا كبيرًا في طريق الكمال وفاق، بتجلّده على أفعال التوبة، وبات مميّزًا بتواضعه وتشدّده على نفسه. فتركه أباه الرّوحي يذهب ليتعلّم على حدة وحده. إثر ذلك توغّل القدّيس في البرّية، ليكون بمنأى عن خلطة الناس. لازم قلّايته ولم يعد يغادرها. وتمسُّك أرسانيوس بالوصيّة الإلهية التي نزلت عليه أن يغادر الناس أبدًا كان كبيرًا. إلى ذلك كان أرسانيوس يقول إنّه كثيرًا ما ندم على كلامه، أمّا الصمت فلم يحصل له أن ندم عليه مرّة واحدة. ليالي القدّيس الطوال كان يقضيها، ولم يكن ثمّة ما يحوّله عن صلاته، لكن أقلّ صوت يأتيه من الخارج كان يخلد يقطع عليه خلوده إلى ربّه. على قدر ما كان غنى أرسانيوس في العالم، صار فقره في البريّة. وقد اعترف تلاميذ أرسانيوس أنّ إمساكه عن الطعام كان محيّرًا لأنّه لم تكن لهم فكرة عن معيشته ممّا يقتات. وكانت الدموع ربيبته، ترافقه دائمًا. ولمّا دنت ساعة موته قال لتلاميذه، ألّا يجمعوا حسنات عنه بعد موته إذ أراد أن يحتفّ به الفقر في حياته وفي موته معًا. وطلب أن يُذكر في الذبيحة الإلهيّة حتى إذا ما كان قد صنع صالحة في حياته وجدها لدى ربّه. بمشاعر الاتّضاع هذه أسلم الروح مكمَّلاً بالفضائل بعدما بلغ الخامسة والتسعين سنة .
طروبارية القدّيس البارّ أرسانيوس الكبير
عظائمُك أيّها البتول من يصفُها، لأنّك َتفيض عجائبَ وتُنبع أشفية وتتشفّع من أجل نفوسِنا، بما أنّك متكلّمٌ باللّاهوت وصفيُّ المسيح.