“إنَّ ٱللهَ ٱلَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا ، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ” ( كُورِنْثُوسَ ٱلثَّانِيةُ 4:6). تصلح هذه الآية من بولس الرسول لربط حدث التجلّي بحياة المؤمنين اليوميّة. فالنور نفسه الذي تجلّى للتلاميذ على الجبل ينير المؤمنين منذ غرسهم في المعمودية في جسد المسيح الذي يفيض منه نهر الألوهة للخليقة كلّها. يرتبط هذا النور بالإيمان بألوهة السيد وتجسّده ويربط سلسلة القديسين الذهبية غير المنقطعة منذ زمن الرسل حتى نهاية الأزمنة أي حتى تجلّيها الكامل. هل التقليد غير تسليم النور الحيّ من جيل الى جيل في تجلّيات متجدّدة لا تفتر ولا تتجمّد ؟ يتوق الله أن يرانا نجبل التراب بنوره كل يوم في قداسة متجدّدة لأن عالمنا المعاصر يحتاج الى قديسين جدد مبدعين ومجددين في أشكال جديدة من القداسة لا تنفي القديم ولكن تثبّته بأمانتها وجدّتها.
يكشف تجلّي المسيح قابليّة الطبيعة البشرية للإمتلاء في كلّ أبعادها من النور غير المخلوق أي تجلّي قوى النفس والجسد في الحياة اليومية : في علاقات البشر، والحب والصداقة والزواج وأعمال المحبة، والعمل والصناعة الفنية والعلمية وتحويل الهيكليات الإجتماعية والإقتصادية . ” تحفر النعمة شرائع الروح في قلب أبناء النور…فالقلب يرأس و يحكم كل الجسد. عندما تستأثر النعمة بمراعي القلب…تتسرّب الى كل أعضاء الجسد ( العظة 15 لمكاريوس الكبير)”. نفهم هكذا أن قوى الطبيعة البشرية الجسدية منها والنفسية وكامل وظائفها ليست شريرة ولا هي سجناً ولا قبراً ولا واقعاً مريراً بل هي الشجرة النابتة على مياه النور السماوية و المثمرة على الأرض كل يوم ثمار الفردوس. الإنسان كائن شخصيّ على صورة الكلمة المتجسّد وفي انفتاحه على الله والقريب ( أي كل إنسان ) يحرث الأرض و المجتمع حوله ليوقظ فيها بذار النور التي بذرها فيها المزارع الإلهي. هذا موقف إفخارستي يربط السماء والأرض، العقل والقلب، الخارج والداخل، ويوضح أن الإفخارستيا (أي سرّ إجتماع المؤمنين المغتذين من الحمل المذبوح والقائم ) هي مركز إشعاع النور في العالم ومصدر تجلّيه إذ ترتّل الكنيسة بعد المناولة : ” قد رأينا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي…”. ويستدخل الإنسان هذا النور في الليتورجيا والأسرار والصلاة القلبية كل يوم.
ما معنى كل هذا ؟ لبّ الحديث على جبل التجلّي كان عن خروج يسوع الى أورشليم أي عن صلبه : كشف النور الإلهي في العالم مرتبط بشكل وثيق بسرّ المحبة المبذولة أي موت المسيح من أجل أحبائه، وفيه قبول كل مؤمن لصليب المحبة المحيي أي إنسكابه على مذبح أوجاع البشر، أوجاع آدم الكلّي ( بتعبير القديس صفروني سخاروف). هذا الإتحاد الكامل بشجرة البشرية في القلب و في الشهادة اليومية، في الصلاة و العمل الجماعي للدفاع عن كل إنسان، يلهمه نور المسيح ويكمّله فينا لأننا من دونه لا نستطيع شيئاً. أن نرى المسيح وحده تعني أنه هو القطب وهو مركز كل رؤية وتعني أيضاً أننا إذ ننظر الى كل مخلوق وكل ظرف لا نرى إلا نور المسيح يجلّل كل شيء. يستنير كل فكر و كل عمل بنور التجلّي إن ثبّتنا ألحاظنا على يسوع في معاشرة يومية لشخصه و كلمته و إخوته حتى يغمر القلب ببهائه. وإذ نسمّي إسم يسوع على كل إنسان نصادفه وكل حيوان و نبات وكل مكان وفعل نضعه في حضرة المسيح الذي به وله كان كل شيء و المنير كل كائن يأتي الى العالم.
في نزوله من جبل الجلّي ( وهو الإله-الإنسان الكامل ) يصادف يسوع غلاماً به روح نجس (أي الإنسان المكسور). يلاقي يسوع كل إنسان أنهكته قوى الشر فيشفيه. في نوره الذي ينسكب في أوانينا الخزفية نرى أنفسنا ” مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لَكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا” ( 2 كو 4 : 7-10 ) فنتجلّى.