ملكوت للجميع

الأب سمعان أبو حيدر Tuesday September 17, 2024 24
  مشهد دخول يسوع أورشليم مثير للاهتمام. هو لم يمتط حصان المحاربين، بل جلس على جحش ابن أتان. يمكن تخيُّل رأسه يتمايل بينما كان الجحش يشقّ طريقه. في استقباله، وقف حشد متنوّع من الناس: إلى جمع كبير من الأولاد المتراكضين، لدينا جمهور من الزواني والعشّارين التائبين وعدد كبير من مرضى شفوا من أسقامهم، بُرص وعميان ويابسي الأعضاء، وآخرين أجانب عن أورشليم… هؤلاء كلُّهم كان أمرٌ مُشترَك يجمعهم: لقد لمس يسوع حياتهم. ينقل لوقا دهشة تلاميذه والذين تبعوه من الجليل. قال: كانوا «يفرحون ويسبّحون الله بصوت عظيم، لأجل جميع القوات التي نظروا» (١٩: ٣٧).
كان الفرّيسيون منشغلين بتحديد مواصفات الشخص المقبول من الله. عملوا بجدّيّة كبرى لإبعاد الناس عن الله أكثر من إحضارهم إليه! ضيّقوا على العبادة، وحصروها في الهيكل بحيث صعب على الإنسان العاديّ أن يكون جزءًا منها… تحوّل الأمر برمّته إلى تشويه رهيب لما كان من المفترض أن تكون عليه العبادة.
وعندما دخل يسوع إلى هيكل الله، «أخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام» (مت ٢١: ١٢). كان هذا الفعل مفاجئًا. كان المتوقّع أن يكون يسوع في صفّ النظام الدينيّ وقادته، وأن يكون هؤلاء أيضًا في صفّه. ولكنّ الواقع كان على العكس تمامًا.
هاجم يسوع رجال الدين المرائين، وكان منجذبًا، بشكل مثير للدهشة، إلى الخطأة والناس «الذين يرفضهم» المجتمع. كان يأكل ويشرب مع الخطأة والعشّارين حتّى قيل فيه «هوذا إنسان أكول وشرّيب خمر، محبّ للعشّارين والخطأة» (مت ١١: ١٩). لامست نسوة ذوات سمعة سيئة قدميه، وغسلنها بدموعهنّ وجفّفنهما بشعرهن. ودُهن رأسه بطيب جزيل الثمن. كان يلمس المصابين بالبرص والأمراض الرهيبة ونازفي الدم، وهي أمراض يهرب الناس من المصابين بها.
حتّى تلاميذه، لقد جمع يسوع مزيجًا غريبًا من الناس في صفوف تلاميذه. هناك «الغيور» الذي أراد محاربة المحتلّين باستعمال أيّة وسيلة متاحة. من ناحية أخرى، كان في صفوفهم جابي الضرائب الذي تعاون مع الرومان. وبسبب هذا، وقضايا مثل صراعهم الدائم «بعضهم مع بعض في مَن هو أعظم» (مر ٩: ٣٤)، يبدو أنّه كان هناك صراع مستمرّ بين التلاميذ. كم كان صبر الربّ يسوع كبيرًا، كم كان قلبه مفتوحًا.
هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي يمكن أن نتكلّم عليها. لكنّ الواضح أنّ ذراعي يسوع مفتوحتان كفعل من أعمال الدعوة. شكّل دخوله أورشليم عملًا عظيمًا من أعمال الدعوة. ركب يسوع جحشًا متواضعًا. دعاهم. لم يجبرهم على قبوله كملك. ليس نوع الملك الذي أرادوه. ذراعاه مفتوحتان على وسعهما، والدعوة موجّهة إليهم، لكي يتخلّوا عن أفكارهم السياسيّة حول معنى المُلك، ويتبنّوا تعاليمه حول ملكوت الله. دعوته لم تكن دعوةً لمحاربة روما لتحرير بلادهم، بل كانت دعوةً إلى حياة جديدة في ملكوت الله هنا والآن، أيًا كان الوضع السياسيّ في الأرض. ولكن، هل سيفهمون هذا؟ هل سيكون لديهم الحماسة عينها لمملكة الله كما لمملكة سياسيّة في هذا العالم؟
دعوة يسوع كانت للجميع أن ينضمّوا إلى هذه المملكة الجديدة. مملكة أناس حقيقيّين يقفون على الأرض، ويعيشون مبادئ هذا الأسلوب الجديد من الحياة. هذه دعوة مفتوحة للجميع، للقدّيسين والخطأة على حد سواء. هي دعوة، لترك حياتهم المنحرفة واستغراقهم في ذواتهم. هي دعوة لترك حياة العبث والدخول في حياة الله المعطاة مجانًا.
لذلك، «انفتاح» يسوع على جميع المهمّشين والخطاة والمنبوذين، لم يكن بهدف «التراخي» في الإيمان أو الدعوة العمياء. يداه المبسوطتان على الصليب أرادتا أن تجمعا أكبر قدر ممكن من الناس. أراد أن يضمّ البشريّة كلّها، لو قبلت، إلى صدره من أجل أن يُصعدها من واقعها إلى أبيه السماويّ. من هنا، لم تلق دعوته «المنفتحة» في كثير من الأحيان، سوى الرفض أو المسامير لتمنعه عن ضمّها اليه.
 

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share