خميرة، ملح ونور في عالم تمزقه الطائفية

الأخ روبير وائل بيطار Tuesday November 25, 2025 281

مساهمة روبير وائل بيطار في مسابقة «أقرب الى فكر كوستي بندلي».

مشاركتنا اليوم مع الأخ روبير وائل بيطار من مشتى عازار – وادي النصارى، سوريا.

نشكر الأخ روبير الذي قدّم نصًّا إبداعيًّا بعنوان: خميرة، ملح ونور في عالم تمزقه الطائفية

من وحي تعاليم كوستي بندلي في سبيل تخطّي الشعور الطائفيّ، وندعوكم للاطلاع على المساهمة الكاملة أدناه

تابعونا يوميًا لاكتشاف بقية المساهمات التي سننشرها تباعًا.

خميرة، ملح ونور في عالم تمزقه الطائفية
روبير وائل بيطار

خلق الله الإنسان في أفضل صورة وأحسن تكوين وأودع فيه قلباً قادراً على حبِّ الخليقة كلها دون استثناء، وحباه عقلاً نيراً وذهناً متقداً يميزه عن سواه من المخلوقات به يُميّز الخير من الشر ويدرك عواقب أفعاله وسلوكياته.

إلا أن قلوب بعض الناس وعقولهم حادت عن الطريق القويم وعما أعده الرب الإله فنتيجة لطبائعهم البشرية ونزعاتهم الفردية والجماعية وقع الإنسان أسير شرك من المشاكل هي في الحقيقة صنيعة يديه ولعل أهمها مشكلة التعصب الطائفي التي نراها واضحة في عالمنا العربي إذ ساهم في ظهورها أسباب عدة داخلية منها وخارجية أدت مع زيادة تعمقها إلى زيادة الشرخ بين أبناء الوطن الواحد فأصبحوا لا يعرفون إلا خطاب الفرقة والتناحر.

هنا وقف المفكرون بما لهم من دور ريادي وتوعوي كقناديل مضيئةتسلط الضوء على هذه الظاهرة وتتصدى لها عبر مؤلفاتهم التي تدعو إلى نبذ الطائفية وتخطي الشعور الطائفي ولعل أبرزهم (كوستي بندلي) في مقالته (في سبيل تخطي الشعور الطائفي) مستعرضاً أبعاداً إيمانية واجتماعية وسياسية وتفاصيل العلاقات الإنسانية بغية تعزيز وحدة الصف ونبذ الشقاق.

تزدهر المجتمعات وتنمو معتمدةً على شبابها المتعلم الواعي المثقف فهم عماد الوطن وذخيرته عند الحاجة.
لكن العلم والمعرفة وما ينتج عنهما من سلوك وأفكار لا يكتملان ما لم يتوجا بالإيمان.. إيمان حقيقي يحتضن جوهر الدين بعيد عما دخله من تشويه وإضافات وثنية تفرغ الدين من معناه وتحرفه عن مساره.
فلنؤمن أن الله واحد لجميع البشر وليس حكراً لفئة دون أخرى، والإيمان بهذه الفكرة هو شعلة تنير العقل والقلب معاً وتنعكس على الواقع بسلوك منفتح على الآخر بكل محبة وتواضع فالآخر هو الأخ في الوطن والإنسانية وهذا الإيمان هو أولى الخطوات في تجاوز الطائفية.
وعندما أعي أن الله محبة ومحبته تسكن فيّ وأنه أحبني لدرجة أنه بذل ابنه الوحيد فداء عني ليخلصني من خطاياي وذنوبي أستطيع من خلال هذه المحبة التي تفيض في قلبي كقبس من نور أن أحب ذاتي رغم نواقصها وعيوبها وبهذه المحبة ذاتها أتجاوز النظر إلى عيوب الآخرين وأبتعد عن وضع الأحكام المسبقة عنهم التي قد تصل بالمرء إلى حد نبذ الآخر وعدم تقبله فأتخطى بذلك الانحياز لجماعتي فقط كونها انعكاس لي وأدرك أن الحب الذي به أُوجَد يساعدني على تجاوز حدود ذاتي إلىعلاقات أتقبل فيها الآخرين حتى وإن اختلفوا معي فنتبادل ما وهبنا إياه الله من الحياة والفرح.
وهذا التجذر الإيمانييساعدنا نحن كمسيحيين على التحرر من عقدة الخوف التي تهدد الأقليات لأن المسيح كان صادقاً لنا بوعوده (لا تخف أيها القطيع الصغير) فليس المهم أن نكون أقلية بالعدد طالما أن الله اتخذ منا منطلقاً لعلاقته مع البشر وشرّفنا بأن نكون باكورة العالم الجديد وطليعته وهذا تماما ما أراد السيد المسيح توضيحه في مثل خميرة أخذتها امرأة وجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرت كلها، فالوجود المسيحي لا يُقيَم من خلال العدد بل من خلال فعله وتأثيره المُغيِّر باندماجه دون أن يفقد خصوصيته ونوعيته.
فالموقف الإيمانيإذاً أساسي إذا أردنا تخطي التعصب الطائفي لأن جوهر إيماننا المسيحي قائم على المحبة.
الإيمان هو الأساس في مواجهة التعصب وفق (بندلي) إلا أن التفعيل يكون بالأعمال اليومية والأمور الحياتية من خلال السلوك والقدوة الحسنة فتصبح علاقاتنا الإنسانية المُعَاشة في سياق حياتنا اليومية قائمة على الانفتاح الروحي والإنساني بدلاً من الانغلاق الطائفي إذ إن تعايش الحياة اليومية من شأنه أن يبدد الأوهام والمخاوف ويؤالف بين الناس ويساعد على معرفة بعضهم البعض واكتشاف إنسانيتهم.
وعلى المستوى المجتمعي يدعو (بندلي) إلى الانفتاح والتفاعل بين مختلف الطوائف والفئات مركزاً على دور المؤسسات الأرثوذكسية في ذلك فالمركز الصحي الاجتماعي في الميناء (طرابلس) يقدم خدماته للجميع دون تمييز، والثانوية الوطنية الأرثوذكسية في طرابلس تستقبل الطلاب مهما كانت انتماءاتهم بكل محبة ورحابة صدر واحترام للآخر المختلف وقد كان لها الأسبقية بطرح إدخال مادة الديانة الإسلامية للطلاب المسلمين ورغم أن هذا الاقتراح لم يلاقي القبول في حينه إلا أنه اعتبر مبادرة مسيحية حرة تدعو لفتح صفحة جديدة مشرقة بين الطوائف لخلق جوٍ من الانفتاح والتآخي بدلاً من التحزب والتشنج.
إضافة إلىالمشاركة الفاعلة للأفراد والمؤسسات الأرثوذكسية  في المشاريع ذات النفع العام وانخراطهم في المجتمع المدني ذاكراً دور حركة الشبيبة الارثوذكسية كما في الميناء (طرابلس) قبل الحرب وبعدها في خدمة أهل المدينة ومعالجة القضايا التي تهمهم مساهمة في الحفاظ على الوحدة  والتعايش المشترك بين أبناء المدينة الواحدة على اختلاف انتماءاتهم.
ويؤكد بندلي أن تكريس القدوة الحسنة لا يكون بالكلام المعسول والشعارات الرنانة فقط بل بالعمل الجاد المبني على المحبة والأخلاق واحترام الغير المختلف عنك مستشهداً بسيرة غاندي وأعماله للإصلاح وإرساء السلام بين الهندوس والمسلمين في الهند.
ورغم أهمية الجوانب السابقة إلا أن (بندلي) أفرد للجانب السياسي مساحة خاصة فأظهر كيف تعمل الطائفية على تمزيق جسد الوطن الواحد بتغذيتها للروح الفئوية التي تطفئ روح التغيير وتمنع التجدد.
مقدماً لبنان مثالاً فالمسيحيون امتلكوا مواقع وامتيازات شكلت لهم حصناً في معترك الحكم فبدلاً من حماية الوحدة الوطنية برزت قلاع التفرد والاحتكار فولدت أوساطاً مشحونة من الخوف والتنافس والتناحر بين الطوائف وبدا كأن كل طائفة تصارع لتثبت وجودها وهذا ما أغرق لبنان في دوامة مدمرة متكررة من الاقتتال نسفت كل أمل بالسلام وقوضت بناء الدولة.
وأعطت الدافع للدول الخارجية الطامعة في أرضهللتدخل في شؤونهوزيادة الشرخ بين أبنائه.
وبرأي (بندلي) أن الحل يكمن في بناء وطن علماني يتسع لجميع مكوناته، يحكمه القانون والمواطنة والعدالة، متجاوزاً حالة الانتماءات الطائفية فلا هيمنة لطائفة على أخرى.
على أن مهمة المسيحيين لا تنحصر ضمن حدود طوائفهم ودولهم القطرية، بل تشمل المنطقة العربية بأسرها لمساعدتها بالتخلص من التخلف والقهر مدركين أن مصيرهم مرتبط بمصير محيطهم، فتحرير الذات يكمله تحرير الآخر من سلاسل الانقسامات الطائفية لهدم أسوار الظلم وبناء جسور التواصل لتحقيق العدالة والوحدة الوطنية.

وختاماً علينا نحن المسيحيون بحسب إيماننا أن نتحرر من عقدة الخوف التي تلاحق الأقليات واضعين نصب أعيننا المهمة التي أناطنا بها السيد المسيح بقوله لنا “أنتم ملح الأرض” (متى5: 13) فمهمتنا لا تنحصر في تحرير ذاتنا فقط وتطهيرها بل في تحرير وتطهير مجتمعاتنا. وقوله لنا “أنتم نور العالم” (متى5: 14)، فعلينا أن نكون كشعلة من نور تفيض بالمحبة والتسامح لنساعد في بناء وطنٍ لا تحده جدران الطائفية ولا تقتله العصبية بل وطن جامع لكل أبنائه متساوين في الحقوق والواجبات.

لتنزيل النص : خميرة، ملح ونور في عالم تمزقه الطائفية- نص إبداعي- روبير وائل بيطار

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share