أوضاع المسيحيّين في لبنان ، وخاصّة في سوريا، هذه الأيّام، دقيقة. في الظّاهر، يبدو أنّهم في حيِّز المضايقة، إلى الآن، كغيرهم. حالهم مفتوحة على كلّ الاحتمالات. قد تهبّ رياح العنف تجاههم، بالجملة، في أيّ وقت. لا هم كتلة متراصّة بإمكانها أن تدافع عن نفسها، تمامًا، ولا هم طرف في النّزاعات النّاشبة.
رغم ذلك بعضهم محسوب على هذا الفريق أو ذاك، وبعضهم مُقحَم، على غير خيار منه، في صراعات الآخرين اتّقاء انتقام هذه الجهة أو تلك منه. الحرّيّة الحقّ لا فسحة لها في الصّورة المرتسمة، ولا الحياد. غيرهم يفرض نفسه عليهم فرضًا. أعداءَ، يُحسَبون، أو حلفاء، هنا وثمّة، رغمًا عنهم. وفي غمرة التّطرّف الّذي ينتهجه بعض الجماعات الأصوليّة، تلقى المسيحيِّين شبه عزّل وعرضة بيسر للأذيّة، مع أنّ الفئات المذهبيّة، بعامّة، أدنى، في موقفها، إلى الاعتدال والعيش المشترك. المسيحيّون، من هذا المنطلق، لا يشعرون، في العمق، بالخطر آتيًا عليهم من غير المسيحيِّين، ككتلة، ولو سَوَّق قومٌ لهياج طائفيّ عارم قابل لأن يطيحهم. لكن المبادرة تبدو في أيدي المتطرّفين.
هؤلاء قلّةٌ، عددًا، لكن الأنظار منصبّة عليهم، ولهم سلاح الفكر المذهبيّ المتطرِّف وأدوات القتل ويُغدَق عليهم بالمال. يُصوَّرون، عن غير حقّ، كأنّهم، في غمرة التّفلّت، مَن يمثّلون المذاهب الّتي إليها ينتمون. وتميل الكثرة، محلّيًّا، إلى السّكوت عنهم، إمّا خوفًا منهم أو استغلالاً لهم، وإمّا من قبيل التّعاطف والتّضامن الطّائفيّ القائم على قاعدة: “أُنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”. في كلّ حال، الحساسيّات المذهبيّة، المنحدرة إلينا من التّاريخ، تعتورها، اليوم، حدّةٌ تحدو الأطياف إلى إيثار نهج الغيرة على أبناء الطّائفة الواحدة، ولو في الباطل، على الحقّ والمواطنيّة والسّماح والمعروف، في التّعاطي مع الأطياف الأخرى، مع أنّ هذه كلّها لا زالت موفورة، هنا وثمّة، في العلاقات. لكنْ يبدو أنّ لغة الأصالة الإنسانويّة تغور، في زمن التّناحر المذهبيّ، وأكثره مفتعَل، في لجة التّطرّف!
صحيح أنّ التّطرّف ينشط، بعامّة، في زمن الظّلم والفقر، لكن انفجار التّطرّف الحاصل، اليوم، منذ أن انطلقت شرارة ما عُرف بـ”الرّبيع العربيّ”، أشدّ إيلامًا وأوسع مدى وأكثر عمقًا من أن يتمكّن المتطرِّفون من إحداثه بقوّة ذاتهم. ليس مقنِعًا الزّعم أنّ مَن يغذّون المتطرِّفين بالإعلام والمال والسّلاح والتّدريب، يفعلون ذلك من قبيل التّضامن الطّوائفيّ. هذا بالنّسبة للبلدان الّتي تنتمي إلى طوائف المتطرِّفين. ولا هو مقنع أنّ مَن هم خارج نطاق هذه المذاهب صَحَوا، فجأة، إلى حقّ المظلومين في الحرّيّة والفقراءِ في العيش الكريم. شعار الدّيموقراطيّة، في الصّراع القائم، مُقحَم إقحامًا، في الصّورة، من باب ذرّ الرّماد في العيون. أوّلاً لأنّ مَن يَدْعون إلى الدّيموقراطيّة هم أنفسهم عبيد أصحاب المال. وثانيًا لأنّهم لا يمكن أن يكونوا غافلين عن العجز التّاريخيّ للتّطرّف المذهبيّ، عبر بلدان ما تَسمّى بـ”الرّبيع العربيّ”، في استيعاب فكرة الدّيموقراطيّة والحرّيّات. ولا أظنّ المسألة مسألة غيرة على الفقراء، في نطاق تلك البلدان، ما دام أنّ رافعي شعار الدّيموقراطيّة، من خارج نطاق “الرّبيع العربيّ”، همُّهم في مصالحهم، ولا يبالون بشقاء شعوب الأرض، ولا زالوا، إلى الآن، يناصرون بعض النّخب الماليّة المحلّيّة على حساب شعوب بلدانها، لأنّ ذلك يوافق مطامعهم وطموحاتهم!
على هذا ليس دعمُ التّطرّف المذهبيّ، وهو حاصل، بريئًا! ما يرمي إليه المتطرِّفون غير ما يرمي إليه الّذين يدعموهم! هناك ظلم وفقر؟ بكلّ تأكيد! لكنّ شعار رفع الظّلم والفقر، في المناخ السّائد، قِشرةٌ تغلِّف قضيّة أخرى، أكبر وأخطر، ولهَبَ هذا الشّعار يُؤجَّج لتوظيف مشاعر الحقد والتّنافر، على أوسع نطاق، في إزكاء التّقاتل حتّى نقطة اللاّرجوع والجنون! ليست الدّيموقراطيّة هي القصد، بل الشّرذمة وإشاعة الفوضى! ولا رفع الظّلم هو القصد بل ترسيخ وتوسيع دائرة التّقاتل وتشريع الفتك بالعباد، إلهيًّا أو مدنيًّا، حتّى إلى حدود الهمجيّة المُطبِقة! كذلك ليس الخروج من الفقر هو القصد بل إنفاق مال الجوعى على القتل والتّقتيل ابتغاء تبديد طاقات المنطقة، والبلوغ بحالة الفقر فيها حدّ تهريب الأموال والمجاعة المعمّمة! المطلوب، في نهاية المطاف، هو زرع العداوة والفرقة والضّعف وترسيخها إلى جيل بعد جيل! والمطلوب، أيضًا، تبديد وبعثرة ومصادرة الطاقات! والمطلوب، أخيرًا، هو التّخلّص من أكبر عدد ممكن من المسلمين بأنجع الطرّق: الصّراعات الدّاخليّة، وإعادتهم إلى روح ومنطق القبليّة الجاهليّة إلى سنين عديدة!
أين محلّ المسيحيِّين من الإعراب في هذا التّصوّر؟
المسيحيّون، لنكتفي بالكلام عن الزّمن ما بعد العثمانيّ، شكّلوا وجودًا، لا إيمانيًّا وحسب، في هذه المنطقة، بل حضاريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا مرموقًا. الّذين يعتبرونهم، اليوم، كَفَرةً وفلولاً صليبيّة، قاصرون عن القراءة الرّصينة للتّاريخ! لا يشاؤون، بسبب إصرارهم على اعتماد التّوجّه الدّينيّ القبليّ، أن يعوا أنّ المسيحيِّين عانوا، في هذه الدّيار، الحضورَ الصّليبيّ، كما عاناه سواهم. فقط، لنتكلّم على أنفسنا، نحن الأرثوذكس، نقول إنّ الصّليبيّين ألغونا ككنيسة! في نظرهم كنّا أعداء لهم أكثر من المسلمين! المسلمون كانوا أعداءهم في حكم هذه البقاع! نحن كانوا يعتبروننا أعداء لهم ومنافسين في الفكر والكنيسة! لذا، فيما تَرَكَنا المسلمون نتدبّر أمورنا الدّاخليّة ككنيسة تدير ذاتها بذاتها، عمل الصّليبيّون على “شطبنا” من الخارطة الكنسيّة! أمّا موضوع الكفْر فيقابله، في كتاب المسلمين، موضوع معاملة أهل الكتاب بالحسنى! فإن قال المتطرّفون بـ”التّكفير”، في أزمنة الشّدّة، فأكثر المسلمين قالوا بالحسنى، وإلاّ ما كان بقي مسيحيّ واحد، هنا، بعد حوالي أربعة عشر قرنًا، من الزّمن الأوّل للمسلمين!
ولأنّ المسيحيِّين كان لهم دور حضاريّ وثقافيّ وسياسيّ كبير، حتّى لا نتكلّم على الإشعاع الإيمانيّ، ولو غير المباشر، فإنّ هذا عمل على بثّ الكثير من الاستنارة واللّطَف والوعي التّربويّ واللّغويّ والعروبيّ والسّياسيّ، بين المسلمين، في هذه المنطقة. المسيحيّون والمسلمون كانوا ولا زالوا، إلى اليوم، شركاء في بنيان الحضارة في هذه الدّيار. هذا لا يروق لمَن يشاء للمسلمين أن يستمرّوا قبائل جاهليّة متناحرة. لذا ثمّة غضبٌ وحقد على المسيحيِّين من الّذين لا يريدون لنا الخير، لا نحن ولا شركاءنا في المدى الأهليّ، من إخوتنا المسلمين. الحاقدون يثيرون المتطرّفين والأصوليّين علينا كأنّنا نحن سبب البلوى ورمزها. أوّلاً ليتخلّصوا منّا لأنّنا آمنّا بعيسى المسيح، وهم قتلوه، ولا زالوا، مذ ذاك، يلاحقوننا، في كلّ الأرض، لكي يبيدوا ذِكر مسيح الرّبّ متمِّمين خطاياهم كلَّ حين (1 تسالونيكي 2: 16)! وثانيًا ليحرموا المسلمين خميرة وجود المسيحيِّين بينهم، على كلّ صعيد! ليس المسيحيّون مَن يشكِّلون خطرًا على المسلمين، بل الّذين يعتبرون المسيحيِّين والمسلمين معًا خطرًا إيمانيًّا وحضاريًّا وفكريًّا وسياسيًّا عليهم!
من أين التّطرّف المذهبيّ اليوم بيننا إذًا؟ من الّذين يعتبروننا في “مصاف الكلاب”، نحن والمسلمين معًا! هؤلاء لا حقدهم ينام ولا تآمرهم، وهم ذئاب خاطفة! حتّى متى نبقى غافلين عن فكرهم ومقاصدهم، ونقع، بسذاجة، في فخاخهم فنتقاتل، ونعمل على تجريح أنفسنا بأظافرنا؟!
من جهتنا، نحن المسيحيِّين، بِغَضّ النّظر عن التّموّجات السّياسيّة والأمنيّة الحاصلة عندنا، المسلمون نحبّهم ولا نبغض أحدًا! هذا موقف كنسيّ ثابت عندنا. ولو تسبّب قومٌ منهم في أذيّتنا لأنّنا مسيحيِّون، سنبقى على محبّتنا لهم ولا نستطيع غير ذلك! مسيحنا هكذا علّمنا! ونحن باقون هنا، ككنيسة، طالما شاء لنا ربّنا ذلك، لأنّ بقاءنا ليس رهنًا بتجاذبات سياسيّة بل بقصد الله من خلالنا في هذه الأرجاء! هو يدبِّرنا في كلّ حال وعليه اتّكالنا. ولو بدا كأنّ الأمواج على وشك أن تبتلعنا، فلا شيء، في المياه الجوفيّة، يجعلنا نيأس أو نستسلم أو نهرب! الّذي زرعَنا هنا هو يتكفّل بنا! تاريخ قدّيسينا علّمنا! والّذي يسمح، للتّنقية، بأن تتعرّض السّفينة للأنواء مقيمٌ على ظهرها، يهدِّئها بكلمة، ساعة يشاء! ولو جُرِّب بعضنا، أو الكثيرون منّا، بالخروج إلى المجهول، فثمّة، هنا، مَن سيبقى، ببَرَكة الله، ولو بذل دمه فدية، لا لاستمرار المسيحيِّين في الشّهادة لمسيح الرّبّ، إلى المنتهى، وحسب، بل محبّةً بالمسلمين، أيضًا، لخلاصهم، درى وصدَّق بعضهم أو لم يدْرِ ويصدِّق! نحن لسنا لأنفسنا بل لمَن اشترانا بدمه. والّذي اشترانا بدمه، شاء لنا ولكلّ أهل الأرض، سواء بسواء، أن نكون شركاء وإيّاهم في الخلاص! في مهبّ الرّيح نعرف أكثر أنّ مسيح الرّبّ معنا وفيما بيننا! كذلك نعرف أنّه ليس لنا سلام حقيقيّ، لا هنا ولا في أيّ مكان آخر، إلاّ سلام المسيح الّذي يفوق كلّ عقل! هذا نلتمسه، في كلّ حال، لا بسلاح القتل بل بسلاح البرّ! طموحاتُ بِنَاء ممالك مسيحيّة في الأرض خبرناها، لقرون، خاوية ومؤذية وإيهاميّة، ومججناها! لم نعد نطمح إلاّ لملكوت السّموات!