الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..” (عبرانيين 1 : 1 – 2)
وكلام الابن نعرفه بالروح القدس، الذي يعطينا فهم تقليد الكنيسة المكتوب (الكتاب المقدس)، والشفهي ( شهادة حياة الكنيسة)
… نورد فيما يلي أسبوعياً قبساتٍ من تجليات الرب في رعاياه الدمشقية (في أبرشية دمشق)، تعكسها لنا شهاداتٌ وعظاتٌ لآبائنا خدام الكلمة، الكارزين بالقائم من الموت لأجل خلاص العالم
عظة هذا الأسبوع لقدس الأب يوحنا فرزلي
الأحد الرابع من الصوم
أحد القديس يوحنا السلّمي
الرسالة : عبرانيين الإصحاح 6: 13 – 20
الإنجيل : مرقس الإصحاح 9 : 17 – 31
كل شيء مستطاع للمؤمن
أيها الأحباء بالرب،
يُقدم إنجيل اليوم صورة رائعة عن إلهنا المحب البشر، الكثير الرأفات، والذي يتعامل مع أبناء البشر كأولاد أخصاء له. فرغم آياته الكثيرة ومعجزاته الفائقة عن الوصف، منذ بدء الخليقة ، بهدف أن يبقى الإنسان نقياً وطاهراً على الصورة الإلهية، ويبقى بذلك مستظلاً تحت مظلة الملكوت السماوي.
إلا أننا نشاهد البشرية جمعاء والممثلة بأبينا آدم، بدأت رويداً رويداً بتشويه هذه الصورة الإلهية ولبست ثوباً بالياً خالياً من النقاوة والطهارة عندما بدأت بالاستماع إلى صوت عدو الخير واستسلمت لغواية إبليس فأصبحت تحت ثقل الخطيئة وتداعياتها، وهذا ما عبَّر عنه السيد بنفسه علانية وبصرخة عتاب أبوية قائلاً :
(مرقس 9 : 19 “أيها الجيل غير المؤمن إلى متى أكون معكم إلى متى أحتملكم”)
من ناحية أخرى نشاهد في هذه الصورة الإنجيلية، أنموذجاً عن نية الشيطان وأهدافه في تقييد البشرية وتحطيمها لتبقى مسجونة في أسافل الهاوية، حيث نشاهد تلك العذابات الجسدية التي يعاني منها ذلك الإنسان، كما قال الكتاب (يمزقه ، وييبس)؛ مرة ثانية (مرقس 9 : 20 “صرعه الروح على الأرض فوقع”). مرة ثالثة (مرقس 9 : 26 “فصرخ وصرعه شديداً فصار كميت”) .
إذاً هي محاولات عديدة يقوم بها إبليس لإهلاك النفس البشرية ، هي محاولات حثيثة يقوم بها الشيطان لمحاربة الإنسان والإيقاع بنا بأشكال ونماذج مختلفة تتبدل وتتغير مع تغير الأزمنة والتواريخ ، إلا أن هدفها واحد وهو هلاك الإنسان لذلك جاء سؤال الرب يسوع لوالد الرجل المصاب بالروح النجس ليسلط الضوء عن الفترة الزمنية التي كان يعاني فيها ، عندما قال (مرقس 9 : 21 “كم من الزمان أصابه هذا”) أجاب والد المصاب منذ صباه ، كي يخبرنا الإنجيلي أن هذا العدد لا يكلّ و لا يملّ، يعمل في الليل والنهار لإيقاع البشرية بالخطيئة وأسر نفوسنا وتقييدها وإننا لنجد لهذه الصورة صدى آخر وانعكاساً واضحاً في كلام الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس قائلاً (أفسس 6 : 13 “مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع أجناد الشر الروحية في السماويات”)
إلا أن التأمل العميق في صورة إنجيل اليوم نجد شعاعاً للنور يسطع من وسط ظلام العذابات، تجد بريقاً للأمل والخلاص من قيود الشيطان وأشراكه، نجد باباً للحرية يستطيع الإنسان الواثق بقدرة الإله وبسلطانه على كل شيء أن يدخل بواسطة الإيمان لكي يتحرر من ثقل الخطيئة وأوحالها، فينقل المؤمن من حالة الموت الروحي والنفسي كما قال الكتاب (مرقس 9 : 26 “فصار كميت حتى قال كثيرون أنه مات”) إلى حالة العيش مع الله ، المليئة بالسلام والفرح والطمأنينة (مرقس 9 : 27 “فأمسكه يسوع بيده وأقامه”).
ما أروعك يا يسوع ، ما أعظم قدرتك أيها الكلمة ، إنك صاحب السلطان الواسع إنك الأب الرحيم والشفوق والتواب على مساوئ الناس، حقاً لقد كنت صادق في قيثارة داود عندما أنشدت (المزمور 94 : 3 “لأن الله رب عظيم وملك كبير على الأرض لأن الله لا يقصي شعبه ولا يترك ميراثه لأنه يسمع أنين المعتقلين ويفك أبناء المائتين”) كيف لا وهو يخبرنا في نهاية النص الإنجيلي عن تضحيته وعن محبته وفدائه بنفسه من أجل أن يتحرر أخصائه من قبضة العدو، ذلك الحيوان الجائر، فلم يكن كلامه سفسطائياً ولم تكن أقواله مجرد شعارات ووعود كي تغيب بعد لحظات في عالم النسيان بل كانت كلمات الرب يسوع واقعاً متجسداً وملموساً، كانت قدرته وسلطانه تترجم على الأرض وأمام كل الخليقة فعلاً للخلاص، وعملاً للشفاء من الأمراض والعلل المتنوعة وأخيراً سيتوج هذا العمل بسفك دمه الطاهر على خشبة الصليب وقاهراً قوة الموت وسلطة الجحيم وبذلك يقدم لنا مثالاً عن كيفية مواجهة تلك الحرب الروحية. يُقدم لنا أنوذجاً حياً مبتدئاً بنفسه عن كيفية التعامل مع هذا العدو الشرير.
إنه اليوم يا أحباء يخاطب كل واحد فينا من خلال تلك الكلمات الأبوية (مرقس 9 : 23 “كل شيء مستطاع للمؤمن”) إنه يريد أن يوقظ شعلة الإيمان الراسخ إنه يريد أن نتمسك بالرجاء كما تقول رسالة اليوم، إنها دعوة لنا اليوم في فترة هذا الصيام المبارك، أن نلتجئ إلى الآب السماوي بقلوب طاهرة وبأفكار نقية ، إنها دعوة اليوم الصريحة والواضحة إلى التشبث بالرجاء كي ننهض مع المسيح في قيامته العتيدة وانتصاره على خشبة الصليب.
وعندما نثبت مرساة حياتنا بخشبةالصليب حينئذ تتخلص سفينة حياتنا من الاضطراب ، تتخلص سفينة حياتنا من التمرغ والزبد والهيجان وتبقى مبحرة إلى الميناء الهادئ إلى شخص الرب يسوع .
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم “ففي حين أن البحارة يرمون المرساة في أعماق البحر، نجد أن مرساة المسيحي مثبتة في أعالي السماوات”
لكن السؤال الأهم كيف سنثبت هذه المرساة؟، السؤال الأهم اليوم: كيف سنرمي مرساة نفوسنا لتبقى ملتصقة في حضن الرب يسوع؟.
يأتينا الجواب من كلام الرب يسوع ، أنك أيها المؤمن لكي تقود سفينة نفسك إلى برّ الأمان يجب عليك أن ترمي مرساة إيمانك عندي، مستعيناً بحبال قوية ومتينة، مستعيناً بحبال الصوم والصلاة، هذه الحبال القوية التي تقود كل من يستخدمها إلى بر الأمان وهذا ما نجد صدى له في رسالة بولس الرسول (أفسس 6 : 13 “احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير”) (أفسس 6 : 16 “حاملين فوق كل شيء ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير”)
الفرصة اليوم متاحة لنا يا أحباء، إنها فرصة الصوم المبارك، لكي نشحذ هممنا، لكي نقوي نفوسنا بروح الإيمان، الفرصة اليوم متاحة أمامنا كي نتحرر في هذه الفترة المباركة من أعمال الخطيئة وأعمال الظلمة ونتوب عن خطايانا وآثامنا، الفرصة اليوم متاحة لنفوسنا المضطربة أن تلتجئ إلى ميناء الرب يسوع كما قال الكتاب (مزمور 94 : 6 “هلموا نسجد ونركع له ونبكي أمام الرب الذي خلقنا”) حيث هنالك السعادة الحقيقية، حيث هنالك الفرح الأبدي، حيث هنالك الغبطة السرمدية مرتقين رويداً رويداً على سلم الفضائل كي نصل إلى المراتب العلوية بشفاعة القديس يوحنا السلمي الذي نعيد له اليوم وجميع القديسين ونعمة الرب تحفظكم أجمعين. آمين.
الأب يوحنا فرزلي
14/4/2013