وُجِّه هذا الحديث للمسؤولين الحركيين في
حلقة التدريب الثانية التي عقدت هذا الصيف
في حصرون. إننا ننشره نظرًا لانطباقه على
المسؤول المسيحي عامة.
لا بد لحديث عن المسؤولية أن يبدأ بحديث عن شخص المسؤول. فالحركة لا تقوم في الأساس على مبادئ ونظم وأساليب بل على أشخاص يحيون ويحبون ويشعّون وينمون معًا. فالشخص نواة العمل الحركي ومرتكزه الأخير.
وكل شخص في الحركة مسؤول بقدر ما هو مكَّرس، ملتزم. ولكن المسؤولية ألقيت بنوع خاص على الذين عُهد إليهم بقيادة ما، مهما كان مستواها. هؤلاء الذين دعاهم الرب إلى مسؤولية القيادة، ماذا يطلب منهم؟ إن تأمَّلنا في كنه المسؤولية حريّ بأن يعطينا الجواب عن تساؤلنا هذا.
1-المسؤول هو في الأساس من أخذ الآخرين على عاتقه: هو من حمل على كاهله أثقال الآخرين كما حمل المسيح أثقالنا: “إحملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمّموا شريعة المسيح”. هو من اتخذ الآخرين “كما اتخذنا المسيح لمجد الله”، فلم يعد يقيم حواجز بينه وبينهم. لقد أصبحت حياته مقترنة بحياتهم. فما يطرأ عليهم يطرأ عليه ويعيشه في أعماقه: “من يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا أحترق أنا.” (2 كورنثوس 11: 29). إن هذا الشعور بالمسؤولية، هذا الإحساس المرهف بحاجات الآخرين، هذا الألم الخلاّق أمام الضعف الذي يعتريهم، حريّ بأن يلهب المسؤول ويدفعه إلى تحقيق ما كان يبدو له لأول وهلة فوق طاقته. ان ما يقوي المسؤول شعوره بأن عليه أن يكمل ما ينقص الآخرين. فهو يشعر بأنه لا يحق له إلا أن يبقى غيوراً حين تفتر غيرة الكثيرين، إلا أن يبقى يقظاً ولو سهى الكثيرون، إلا أن يبقى مندفعًا، نشيطاً ولو دبّ الخمول في الكثيرين. يشعر بأنه لا يحق له أن يفتر، ولو برهة،” لأنه في اليوم الذي يخمد لهيب الحب فيكم، سيهلك الكثيرون حولكم بردًا” (فرنسوا مورياك).
لذا فهو يغتذي روحياً عنه وعن الآخرين، ويتأجج بالغيرة والمحبة عنه وعنهم، يخلص ويثابر عنه وعنهم، علّه يفيض عليهم من ذاته فينعشهم. ما يوطّد المسؤول، شعوره بأن الغير ينتظرون منه سنداً وقوة.
2- وإذا أخذ المسؤول على عاتقه أثقال الآخرين فلأنه يحبهم. المحبة أساس المسؤولية وحجر زاويتها. لقد اتخذنا المسيح لأنه أحبنا. فالمسؤول هو الذي يفتح قلبه على سعته لمن عُهد إليه بقيادتهم، أياً كانوا ومهما كانوا، على مثال الرسول الذي كان يكتب للكورنثيين رغم المتاعب التي سببوها له: “أنكم في قلوبنا للحياة وللموت” (2 كو7: 3). يفتح قلبه لهم جميعاً دون استثناء، دون الإنقياد لمشاعره الخاصة التي ربما جعلته يميل عاطفيًا إلى البعض ويبتعد عن البعض الآخر أو يشمئز منه. المسؤول لا يقيم وزنًا للمقاييس العاطفية sympathies et antipathies ضمن إطار مسؤوليته، تلك المقاييس العاطفية التي تجعله متحيزاً في تصرفه، مثيراً للشقاق عوضًا أن يكون رمزاً للوحدة ومحققاً لها. هذا موقف شاقّ (المحبة المسيحية أمر شاقّ بعيد كل البعد عن الأحاسيس الشعرية الرومنطيقية) يتطلب من المسؤول نكراناً للذات واهتداء حقيقياً، عميقاً، كي يرى وجه يسوع من خلال تلك الوجوه كلها دون استثناء، وسهراً حقيقياً على نفسه كي لا تشوّه الميول العاطفية رسالته بصورة لا شعورية أحياناً. محبة المسؤول، ككل محبة مسيحية، غير مشروطة. لذلك “لا تسقط أبداً” على حد تعبير الرسول. فالمسؤول يحتفظ لمن يُسأل عنهم بمحبته ولو ضعفوا، ولو سقطوا لا بل يضاعف محبته لهم إذا خيبوا آماله، لأن ليس المهم أن تتحقق آماله بل أن يحيا الذين أعطاهم الله له و”لا يهلك منهم أحد”، والمحبة وحدها تحيي. هذا الموقف يتطلب من المسؤول انسلاخاً عن مشاعره الخاصة وقبولاً للآخر على ما هو عليه كما قبلنا المسيح دون قيد أو شرط “لا لأعمال برّ عملناها بل حسب رحمته” وأحبنا مجاناً حتى الموت. بدون هذه المحبة لا يمكن أن يكون للمسؤول تأثير أو فاعلية.
فالبشر لا تنفتح قلوبهم إلا لمن يحبهم وإلا انطووا على أنفسهم وأصبحوا، وإن أطاعوا المسؤول، لا يطيعونه إلا بالأشكال والمظاهر. أما الحب عند المسؤول فهو ينتقل إلى مرؤوسيه كما تنتقل الشعلة من مشعل إلى آخر وكما يستضيء مصباح من مصباح. محبة المسؤول لمرؤوسيه تؤهل هؤلاء للإنفتاح إلى المحبة: للمحبة بكل مقاييسها وليس فقط لمحبة شخصه. فالإنسان يصبح قادراً على الانفتاح والعطاء بقدر ما يشعر نفسه محبوبًا. الطفل يصبح قادراً، إذا شبّ، على المحبة المعطاءة لأنه أخذ من حنان والدته مؤونة كافية من المحبة. يحب لأنه أُحب، والا توقف نموه ودفعه جزعه إلى الإنغلاق والجشع والإستئثار. وكلنا لا نزال إلى حد ما أطفالاً نحتاج إلى مؤونة من الحب لنتحرر من إنطوائيتنا. ولذا كانت التربية الإلهية لنا في العهد الجديد في منتهى الحكمة إذ تدربنا على الحب بإظهار حب الله لنا في يسوع المسيح: “نحن نحبه لأنه أحبنا أولاً”. هذا هو في النهاية دور المسؤول، أن يهب محبته لمن يُسأل عنهم، ليس فقط لتحقيق هذا التداخل القلبي بينه وبينهم الذي لا تأثير حقيقي له بدونه (فقد كان سقراط يقول عن أحد تلامذته: لا يمكنني أن أفيده بشيء لأنه لا يحبني) ولكن لكي يقودهم أيضاً وخاصة بمحبته إلى المحبة حتى إذا ثبتوا فيها ثبتوا في الله والله فيهم، حسب تعليم الرسول.
3- محبة المسؤول لمرؤوسيه شرط لمعرفته لهم: من شروط المسؤولية أن يعرف المسؤول مرؤوسيه لأنه هكذا فقط يستطيع أن يلبي حاجات كل واحد، وأن يساعده على إبراز إمكانياته، وأن يفهم مشاكله وآلامه. ولكن هذه المعرفة لا تكتسب بالدراسة النظرية وحسب، مع أن ثقافة المسؤول العامة تساعد على اكتسابها مساعدة لا يستهان بها. انها تتطلب أكثر من ملاحظة مجردة، موضوعية، مع ان التجرد شرط من شروطها لتبديد الأوهام التي كثيراً ما تحول بيننا وبين حقيقة الآخر.فالمعرفة الحقة للآخر، إذا شئناها ثاقبة، عميقة، تنفذ إلى ما وراء الأقنعة لتطال الآخر في فرادته وأصالته، لا يمكن أن تكون إلا معرفة من الداخل، شرطها الإنفتاح إلى الآخر وإقامة الشركة معه. لقد كتب المؤلف سان أكسوبري في “الأمير الصغير”: “لا نعرف إلا ما ألفناه”، ونعلم أن الكتاب المقدس يشير بعبارة “المعرفة” إلى التداخل الكياني العميق الذي بدونه ليس من معرفة حقة. إن معرفة كهذه تمكّن المسؤول من أن يرى، وراء العيوب والنواقص الظاهرة، الإمكانات الدفينة ليوقظها، ومن أن لا “يصنّف” نهائياً أحد مرؤوسيه بل يرى تعقيده ومتناقضاته والنزاعات المتصارعة فيه ويقف موقف الرجاء والثقة (ما يسميه كبريال مرسيل faire credit) من الطاقات الكامنة فيه والتي تنتظر حريته. فالمحبة “تصدّق كل شيء وترجو كل شيء” لأنها، وهي من الله، تنفذ إلى أعماق الآخر حيث صورة الله كامنة. محبة كهذه تنعش وتقوّي من تشمله لأنه يشعر بأنه عُرف وفُهم وقُدِّر في فرادته، بأنه دعي باسمه: “وأدعو خرافي بأسمائها”.
4- المسؤول موقظ للطاقات الكامنة في مرؤوسيه: بهذه الثقة الحبية بمرؤوسيه يساهم المسؤول مساهمة فعالة بإيقاظ الطاقات الكامنة فيهم. إنه إذ يتطلع دومًا إلى تلك الصورة المثالية لما يمكنهم أن يكونوا، يساعدهم على تحقيق هذه الصورة فيهم، يلفتهم إلى إمكانيات لم يكونوا يفطنون لها، وكأنه بتصرفه هذا يهتف إليهم بنداء نيتشه: “لا تصدّ البطل الكامن في نفسك”. إن المسؤول الذي يقف دومًا من مرؤوسيه موقف الشك والحذر يولّد فيهم اليأس والقنوط. فالإنسان يحتاج ليستمر في مجهوده، إلى من يقدّره، ولكن جهوده تتحطم إذا اصطدمت بشك رؤسائه وفقدان ثقتهم. الثقة موقف مسيحي لأنها تؤمن بصورة الله الباقية في الإنسان، مهما فسد، وبفعالية الفداء، وقد كتب بادن باول: “في كل إنسان ولو كان لصًا خمسة بالمئة على الأقل من الصلاح”. أما الرب يسوع فقد قال عن نفسه بأنه لا يطفئ السراج المدخِّن، لأنه يرجو حتى النهاية أن يشتعل السراج من جديد. لذا يُطلب من المسؤول أن يتخذ موققاً إيجابياً. فعوض أن يرى، خاصة، عيوب مرؤوسيه (العيوب بارزة بطبيعتها أكثر من الخصال الحميدة لأنها تصدمنا وتزعجنا، ولأننا نحاول أن نتلهى بالحكم عليها عن الحكم على أنفسنا)، ينظر إلى ما يبدو فيهم من صفات (والعيوب نفسها كثيراً ما تكون سوء استعمال لصفات حميدة بحد ذاتها) فيساعد هكذا على إبراز هذه الصفات ونموّها. لقد وجدوا في إصلاحيات الأحداث أن ما يساعد هؤلاء على النهوض من كبوتهم شعورهم بأن المسؤولين عنهم يثقون بهم ويترقبون نهوضهم. المسؤول الحركي بدوره يجب أن يشجع من يُسأل عنهم، مظهراً النتائج التي توصلوا إليها، مبديًا لهم تقديره خاصة إذا أصبحوا على وشك فقدان الثقة بأنفسهم.
5- المسؤول يمارس سلطة: محبة المسؤول لمرؤوسيه لا تنفي ممارسته للسلطة الموكولة إليه، لا بل تقتضي هذه الممارسة. فالناس، حتى من بدا منهم فوضويًا، لا يرضون غالباً عن سلطة هزيلة، إنما يرغبون في سلطة قوية يستندون عليها وتؤمّن لهم الاستقرار الذي ينشدون. غياب السلطة يفسح المجال لإنفلات الغرائز ويؤدّي إلى التفسخ ضمن الفرقة أو المؤسسة. لذا فالمسؤول الذي يتخلى عن سلطته عن سوء فهم للتواضع أو رغبة في الشعبية أو خوف من إزعاج الآخرين يهيء الطريق للفوضى التي لا بناء فيها.
ممارسة السلطة هذه تفترض عند المسؤول السيطرة على نفسه، أي أن يكون قادراً على ضبط عواطفه ونزواته وغضبه. يجب أن ينبعث الهدوء منه ويتجلى في ملامحه وتصرفاته، ليس ذاك الهدوء الناتج عن مزاج بليد بل الذي ينبع من ضبط النفس وترويضها. إن “نرفزة” المسؤول أو جزعه يحدثان أسوأ تأثير على مرؤوسيه. كذلك المسؤول الدائم التردد، المتسرع أو السريع التقلب لا يمكن أن يُحترم. ضبط النفس عند المسؤول يوحي بالطمأنينة ويشيع النظام ويوطد سلطة المسؤول على أساس متين.
6- ولكن المسؤولية الحقة تنفي روح التسلط: إنما السلطة هذه لا تعني التسلط. المسؤول الحركي يقاوم في ذاته روح التسلط، تلك التجربة الدائمة الملازمة للمسؤولية. إنها الإنسان العتيق يحاول أن يبرز من وراء مهمة روحية وأن يتقنع بها ليشبع “أناه” الطاغي، المنغلق. روح التسلط يتستر أحياناً وراء أنبل الحجج، فيعلل المسؤول نفسه بأنه لم يبغِ سوى المصلحة العامة، متناسياًَ أنه، بصورة لا شعورية أحياناً، يخلط بين المصلحة العامة ورغبته في فرض ذاته.
المسؤول الحق لا يمارس سلطته من أجل التمتع بالسلطة، بل من أجل خير مرؤوسيه. إنه لا يستخدم الناس ولكنه يساعدهم على خدمة قضية تفوق مصالحهم الفردية. إنه متجرد، لا يسعى إل نجاح فردي. لا يعتبر نفسه رئيساً من أجل نفسه بل من أجل الآخرين. لا ينتظر عرفان جميل ولا يقبل التملق. لا يغذي الأسطورة التي ربما نسجها مرؤوسوه حوله. الطفل الصغير ينسب لوالديه كمالاً إلهياً، ثم ينهار هذا الوهم تحت ضغط الواقع، ولكنه كثيراً ما يُبعث عند البالغ بأشكال أخرى، مثلاً بشكل أسطورة رئيس كامل، ذات صفات مطلقة. المسؤول الحق، وإن قبل الاحترام لأنه يساعده على تتميم مهمته، يحارب الصنمية التي تشوه دوره، وتحجب عن مرؤوسيه غايتهم الحقيقية التي تتجاوز شخصه، وتسيء إلى نضوجهم النفسي والروحي.
مجمل الكلام إن المسؤول الحق لا يبغي الزعامة بل الخدمة، التي توصيها المحبة. لا سلطة بالمفهوم المسيحي إلا سلطة المحبة. المسؤول هو أساساً من يحب أكثر من الآخرين، والمحبة كلها عطاء وتضحية: “بهذا قد عرفنا المحبة. إن ذاك قد بذل نفسه لأجلنا، فيجب علينا نحن أيضاً أن نبذل نفوسنا لأجل الاخوة” (1 يوحنا 3: 16). المحبة كلها خدمة، لا تصنّع فيها ولا منّة: “من أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن للكل خادماً”. ليس فيها إنطوائية، لا سعي فيها وراء مجد أو نفوذ أو سيطرة، إنها “لا تطلب ما لنفسها” لأن “المسيح لم يرضِ نفسه”، “لم يأت ليُخدم بل ليخدم ويقدم نفسه فداء عن كثيرين”.
إن مادلين دانيالو (Madeleine Daniélou) في أحد كتبها تميّز بين شخصية المتزعم (le tribun) وشخصية الشاهد (le témoin). فالمتزعم لا هم له سوى جمع الجماهير حوله ليقيم من نفسه صنماً يُعبد. أما الشاهد- والمسؤول الحركي شاهد- فإنه لا يهتم بذاته. إنه كيوحنا المعمدان يجذب التلاميذ إليه ليرسلهم إلى الرب: “من له العروس فهو العريس، أما صديق العريس، القائم بقربه ويسمعه، فإنه يهتز فرحًا لصوت العريس، فذلك هو فرحي، وقد اكتمل. فله ينبغي أن ينمو، ولي أنا أن أنقص” (يوحنا 3: 29 و30). المسؤول الحركي لا يقيم من شخصه غاية: “لم يكن هو النور بل ليشهد للنور”، بل همه أن يعيش المسيح فيه: “لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ” لكي يلتقي إخوانه بالرب من خلال شخصه الضعيف.
إذا نبذ المسؤول روح التسلط، فهذا يعني انه لا يتملق مرؤوسيه بغية الحصول على شعبية رخيصة كما كان يبني الأنبياء الكذبة سلطتهم الزائفة على تملق الناس وتغذية أهوائهم، إذا أنكر نفسه فعلاً فلن يمجد مرؤوسيه بغية الحصول على تمجيدهم: “كيف تستطيعون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون المجد بعضكم من بعض ولا تبغون المجد الذي عند الله وحده” (يوحنا 5: 44). المسؤول لا يساوم لأنه لا يبتغي ما لنفسه، بل يقول الحق، ولا يتورع عن توبيخ من يُسأل عنهم إذا اقتضى الأمر. فإن اللوم الأخوي ضروري من حين لآخر لأجل المصلحة العامة ولأجل خير الملام نفسه. إلا أن اللوم نفسه يجب أن يكون بعيداً عن روح التسلط، لا تشفّي فيه ولا غضب ولا “نرفزة” ولا إذلال ولا تهكم ولا مبالغة ولا تعميم وحكم نهائي ولا تذكير بالأخطاء السالفة. ليست غاية اللوم تحطيم الملام بل بناؤه.
وبصورة عامة، ممارسة السلطة بالمفهوم المسيحي تقتضي جوًا خاصاً، فيذكر المسؤول أن مرؤوسيه ليسوا بمملوكيه. فإن الإنسان المخلوق على صورة الله لا يمكن أن يكون مملوكاً لإنسان آخر، ولو ادعى هذا الأخير أنه يحاول أن يتملكه باسم الله ومن أجله. فالله نفسه، خالقنا الذي لا وجود لنا بدونه، الذي به نحيا ونتحرك ونوجد، لا يريد أن يملكنا بل أن يقيم معنا شركة حب حرّة. لقد بيّن Grévillotفي كتابهMarxisme, Existentialisme, Personnalisme chrétien أن الكلمة المشهورة التي قالها أوغسطينوس المغبوط والتي كانت تترجم عادة هكذا: “يا رب لقد خلقتنا لك…”، يجب أن تترجم بالفعل إذا دققنا في النص: “يا رب لقد خلقتنا متجهين إليك…”. فإذا كان الله هكذا يتصرف فكم بالحري المسؤول المسيحي لا يمكنه أن يعتبر الآخر”شيئاً” يملكه ويتصرف به دون مراعاة، ولو قصد من وراء ذلك خيره. الحزم لا ينفي مراعاة شعور الآخر. لقد كان يوصي الرسول: “أكرموا بعضكم بعضًا”. المسيحي لا يهتم فوق الحد بكرامته الشخصية ولكنه يراعي إلى أبعد حد كرامة الآخر، لأن المحبة تقتضي ذلك وصورة الله القائمة في الآخر وتلازم شخصه وشخص المسيح. على المسؤول أن يفطن بأن ملاحظة غير لائقة أو عبارة قاسية ومحقّرة يمكنها أن تجرح مرؤوسه في الأعماق. الحزم عند المسؤول لا ينفي إذًا اللطف والتهذيب وأحياناً لهجة مرحة تخفف من حدة ملاحظة ضرورية.
المسؤول الذي نبذ روح التسلط لا يكتفي بأن يلقي أوامر على مرؤوسيه بل يجتهد في إفهام مرؤوسيه غاية هذا الأمر ومعناه وأهميته، كي ينال قناعة المرؤوسين وتبنّيهم الصميمي للأمر، فلا يعودون مجرد أدوات تنفيذ بل مساهمين أحرارًا في العمل المشترك كما يليق بكرامة أبناء الله.
المسؤول الذي نبذ روح التسلط يعرف إمكانياته، يقر ببساطة ودون أي تبجح بالمواهب التي شاء الله أن يمنّ بها عليه. هناك تواضع زائف هو بالفعل، وبصورة لا شعورية أحياناً، سعي وراء المزيد من المديح حسب عبارة (La Rochefoucauld) “رفض المديح عبارة عن الرغبة في مديح مزدوج”، أو تستير للكسل وتبرير له. لكن المسؤول يعرف أيضاً حدوده. يعلم بأنه لا يعرف كل شيء، ولذلك يستشير ويستمع إلى آراء الآخرين حتى إذا كانوا مرؤوسيه. ثم يعلم بأنه معرّض للخطأ، ولذلك يقبل الإنتقاد، ولو كان الإنتقاد أليماً، برحابة صدر إن لم يكن بشكر وامتنان. وحتى إذا كان الإنتقاد مبالَغاً فيه بوضوح، وحتى إذا كانت دوافعه ليست سليمة كلياً، يحاول أن يرى ما هو قسط الحقيقة- ولو كان ضئيلاً- الكامن في ما يوجه إليه من نقد.
7- المسؤول يوجد مسؤولين غيره: المسؤول المسيحي “موقظ وليس بدكتاتور” على حد تعبير غاستون كورتوا في كتابه un animteur et non un dictateur: (L’art d’être chef.) أي أن ارادته لا تسحق ارادة مرؤوسيه انما تكون لهم هديًا وحافزًا من الداخل. ان المتزعم يسحق شخصيات المعجبين به، يحولهم إلى عبيد وأدوات لتسلطه، يجعل منهم امتدادًا لآرائه وارادته، ليس الا. أما المسؤول المسيحي فانه يوقظ بالعكس شخصيات حوله بفيض محبته، ويلدها على صورة ما إذ يعطيها المسيح: “يا أولادي الصغار الذين ما زلت أتمخض بهم إلى أن يتصور المسيح فيهم”. انه لا يحكم على من حوله بالسبات والسلبية والتخدير بل يوقظ الضمائر ويشحذ الهمم ويساعد الطاقات الدفينة على البروز ويثير الشعور بالمسؤوليات. المسؤول ناجح بقدر ما يجعل مرؤوسيه يشعرون انهم هم أيضًا مسؤولون، وبقدر ما يساعدهم على تحقيق هذه المسؤولية. المسؤول الحق هو من استطاع أن يبرز مسؤولين حوله يعاونونه ويتابعون العمل من بعده وفي غيابه. انه كما قيل “موقظ لمن يعادله” “un éveilleur de pairs”. هذا يتطلب من المسؤول كثيرًا من المحبة والثقة والإحترام حتى يساعد من حوله على الانتقال من طور التقبل السلبي إلى طور المبادرة والإنتاج والإبداع. ولكن تهيئة مسؤولين جدد تتطلب منه أيضًا، إلى جانب هذا الموقف العام، خطة عليه أن يحققها بصبر وتأن. فانه ينبغي له أن يثير اهتمام مرؤوسه بالعمل الذي يود أن يعهد به اليه، وأن يجابهه بالصعوبات تدريجيًا على قدر نمو نضوجه وخبرته وإمكانيته لئلا يعرضه إلى فشل حري بأن يحطّم عزيمته، وأن يشعره بأنه إلى جانبه ليدعمه ويتبادل واياه الآراء وأن يطلب منه أخذ المبادرة واقتراح الخطط ضمن نطاق عمله على أن تناقش هذه الخطط على ضوء خبرة المسؤول الرئيسي. وإذا عهد المسؤول إلى أحد مرؤوسيه بمسؤولية فرعية، فينبغي له أن يدعم سلطته فيها وأن يتحاشى التدخل في هذا النطاق دون المرور بمن أصبح المسؤول المباشر عنه. ينتظر منه أن يبتهج بنجاح مرؤوسه في عمله وأن يعترف بهذا النجاح وأن لا يضيق صدرًا حتى ولو نجح مرؤوسه أكثر منه في العمل الذي سلمه اياه. أما إذا أخطأ أو تهاون، فينبغي للمسؤول الرئيسي أن لا يجسم هذا الخطأ وأن لا يبالغ في اللوم وأن لا يتجاهل حسن النية والإخلاص وأن يعترف بالقسط الذي يعود اليه هو من المسؤولية.
على المسؤول الرئيسي أن يكون دائم الإحتكاك بهؤلاء المسؤولين الفرعيين الذين أوجدهم. ان تدريبهم يقوم ليس على عناصر نظرية وحسب، كمطالعة كتب وتلقي دروس، بل خاصة على الإتصال الوثيق بالمسؤول الرئيسي. هذا الإتصال يجب أن يتخذ، لكي يبقى حيًا، مخصبًا، ليس فقط اشكالاً رسمية، من اجتماعات مجالس وغير ذلك بل اشكالاً حياتية، اشكال لقاءات حرة، شخصية، يُستعرض فيها النشاط وتُتبادل الآراء.
كثيراً ما يشتكي المسؤولون بأن ليس بين مرؤوسيهم من يمكن الإعتماد عليه في مهمة أو مسؤولية والواقع أن على المسؤول أن يتساءل إذا كان عمل ما بوسعه لإيجاد هؤلاء المعاونين. كثير من الناس يمكنهم أن يقوموا بمسؤولية إذا اختيرت لهم المسؤولية التي تلائم ميولهم وامكانياتهم:the right man in the right place كما يقولون، وإذا أوقظت وربيت فيهم، على المنوال الذي ذكرناه أعلاه، طاقة المسؤولية.
8- المسؤول قدوة: ولا يمكن للمسؤول أن يوقظ مسؤولين آخرين كما انه لا يمكنه أن يكون فعالاً الا إذا كان قدوة لمن عُهد إليه بهم. لقد كتب الأب كورتوا بحق أن الرئيس هو قبلة الأنظار. وان لقدوته وزنًا خاصاً. وأن حياته أبلغ أثرًا من صوته. فالناس يحتاجون إلى رؤية مُثُلهم مجسدة في انسان يجتذبهم وراءه بسحر قدوته.
نعم ان المسؤول انسان يخطئ ويسقط، انسان بعيد عن الكمال ولكن المهم أن يرى فيه مرؤوسوه طلبًا للكمال لا يفتر ولا يلين. فالمسؤول الحق هو الذي، وان لم يكن كاملاً، يستقطبه الكمال دون هوادة. الناس يتعاونون مع المسؤول ويلبون نداءَه إذا كان يتطلب من نفسه أكثر مما يتطلب منهم.
9- المسؤول واسع الآفاق، بعيد النظر، خلاّق: ومن شروط فعالية المسؤول أن ينظر إلى الأمور نظرة شاملة وأن لا يضيع في التفاصيل بشكل انه لا يعود يرى الخطوط الكبرى ويختلط في ذهنه ما هو جوهري وما هو عرضي، الوسيلة والغاية. عندئذ تفقد التفاصيل قيمتها لأنها لم تعد مربوطة بتخطيط عام وتتحجر الوسائل وتنسحب الحياة منها لأنها لم تعد تضاف إلى الغاية التي من أجلها وجدت بالأساس والتي وحدها تحييها. حينئذ ندخل في عالم اللامعنى والجمود والموت والآلية. من يعمل كمسؤول في منظمة للطفولة، مثلاً، يجب أن لا يغرب عن باله أبدًا أن كل الوسائل والأساليب المتبعة والأنظمة القائمة تهدف في الأساس إلى غاية واحدة ألا وهي التربية المسيحية الحية وأن وجود شعبة كبيرة العدد كاملة اللباس مواظبة منتظمة ليس هو سوى نقطة انطلاق لهذا الهدف البعيد العميق الذي يجب أن يستقطب الجهود كلها.
المسؤول إذًا واسع الآفاق، بعيد النظر، وهكذا يتجنب الوقوع في الروتين القتالة لأنه ذو فكر دائم اليقظة لا يقبل بأسلوب أو تدبير ما أو نظام كأنه نهائي بل هو مستعد دوماً أن يعيد النظر في الوسائل المستعملة على ضوء الغاية التي لا تزال حاضرة في ذهنه. الحياة في حركة دائمة والظروف والأشخاص في تغيّر مستمر، لذا فالمسؤول الذي يستسلم للروتين لا يلبث أن ينقطع عن واقع الأشياء والأشخاص فيحكم على عمله بالعقم والفشل.
لقد صدق الأب كورتوا بقوله أن المسؤول يشيخ عندما يرفض اعادة التفكير في القضايا أو عندما يشعر بأنه لم تعد له مقدرة على تجديد مفاهيمه ونظمه.
أما المسؤول الحي الفعال فهو صاحب مخيلة، تلك المخيلة التي تحاول دومًا أن تبدع وسائل أنجح للإتصال بالآخرين وكسب ثقتهم وتشويقهم وتوجيههم. ان محبته تخصب خياله، لأنه يعي أن الرتابة في الأساليب تبعد عنه من أراد أن يبنيهم وأن يكسبهم للرب. لذا تدفعه محبته لهم إلى استنباط وسائل جديدة أكثر ملاءمة لحاجات من هو مسؤول عنهم، وأكثر موافقة لتطورهم وتطور البيئة التي يعيشون فيها، وإلى ايجاد نشاطات جديدة، منوعة شيقة.
المسؤول صاحب مبادرة . ليس أنه يحاول أن يقلب كل شيء رأسًا على عقب من أجل لذة التغيير فحسب دون أية فائدة حقة، ولكنه لا يخاف من ادخال الجديد، لا يتورع من الإبداع والخلق لأن الناس يختنقون في الرتابة والآفاق الضيقة. المسؤول الحق يستنبط دون انقطاع أساليب جديدة على ضوء الواقع ومتطلباته.
هذا يعني أن المسؤول لا يغرق في العمل إلى حد انه لا يبقى له وقت أو قوة للتفكير. فهذا قتال للعمل نفسه إذ أن التأمل وحده يخصب العمل ويؤمّن نجاحه وفعاليته. لا أتصور مثلاً كيف أن مسؤولاً في حقل التربية لا يجد حاجة إلى مطالعة تربوية مستمرة ليخصب بها فكره وعمله. ثم ان هناك اتصالاً بالرفاق، ليس في اجتماعات رسميّة بالضرورة، بل في الحياة، تسمح بالتفكير المشترك بالوسائل المتبعة في العمل الواحد وبإعادة النظر فيها على ضوء اختبار كل واحد.
10- المسؤول واقعي صبور: قلنا ان المسؤول ذو خيال، ولكن ذلك لا يعني أن خياله يسبح في الأوهام فاقدًا الصلة بالواقع. إن قبول الواقع علامة نضوج على الصعيد النفسي لأنه افلات من نرجسية الطفل ومركزية اناه، وهو علامة تواضع وشجاعة على الصعيد الخلقي. انه على كل حال شرط أساسي لفعالية الرئيس.
المسؤول الحق لا يكتفي بكلمات وأحلام يتغنى بها، فان ذلك من بقايا الفكر السحري الذي يتميز به الطفل والإنسان البدائي والذي لا يميّز بين صورة الشيء وواقعه. ان عند بعض المسؤولين تضخماً في الأفكار والتصورات والخطط ولكنهم لا يأبهون لتحقيقها، وكأنهم يكتفون به عن تنفيذها واظهارها إلى حيّز الوجود الواقعي. لذا فمن البديهي أنه من الأفضل للرئيس أن تكون له أفكار أقلّ يحقّقها من أن تكون له أفكاركثيرة لا يحقق منها شيئًا، كما يذكر كورتوا.
المسؤول الحق يعرف في آن واحد الإمكانيات والصعوبات. هذا هو قبول الواقع. قبول الواقع ليس مرادفًا للموافقة عليه أو الإذعان له. (هذا التباس احاط مثلاً ولا يزال يحيط بالتحليل النفسي الذي يطلب من الإنسان أن يقبل بواقع غرائزه، وهذا لا يعني، كما فهم الكثيرون، الموافقة على الغرائز دون قيد أو شرط وإطلاق العنان لها، انما يعني فقط مجابهتها الواعية دون ذاك التجاهل الأعمى المضرّ الذي هو الكبت، ذاك الكبت الذي هو بالواقع من مظاهر النرجسية لأنه يعني بالضبط: لا يمكن أن تكون فيّ هذه أو تلك من الغرائز لأنها لا تنسجم مع الصورة المثالية التي أرسمها عن نفسي). قبول الواقع هو إذًا مجابهته بحسناته وسيئاته، أو أن نقيم له الحساب، أن لا نرفض رؤيته عن جبن أو اكتفاء. هو أن نأخذه كنقطة انطلاق نحو الأحسن، كمادة خام نستخدمها على أفضل صورة لتحقيق مُثُلنا.
المسؤول الحق يعرف أولاً إمكاناته الخاصة وحدوده، كي يتسنى له اتخاذها وتعهدها بوعي. انه لا يرسم عن نفسه صورة مثالية ترضي نرجسيته أو بالعكس صورة مسوَّدة قاتمة قد تكون هي أيضاً، بصورة لا شعورية، رد فعل كبرياء جريحة أو تبريرًا وتغطية للكسل. بل يرى نفسه كما هو، بقوته وضعفه، ومن هنا ينطلق ليبلغ الأكمل والأفضل. والمهم، كما يقول الأب كورتوا، أن تكون لنا شجاعة قبول ما نحن قبل أن تكون لنا شجاعة الإنطلاق نحو ما نريد أن نكون.
المسؤول الحق يعرف أيضًا امكانات وحدود مرؤوسيه. انه واقعي هنا أيضًا، فلا يرسم عنهم صورة مثالية خيالية لا تتعدى كونها تعبيرًا عن رغباته. ولا يتوقف بالعكس عند نقائصهم فيلتهي بالتشكي منها. انه ينطلق من وضعهم الحقيقي ليستخدم على أفضل صورة امكاناتهم ومواهبهم.
المسؤول الحق منفتح دومًا للواقع، مستعد دومًا لإعادة النظر في أساليبه على ضوء النتائج الحاصلة والوقائع.
ومن مظاهر قبوله للواقع أن لا يخرج من طوره وييأس للإصطدامات التي لا بد منها بينه وبين معاونيه أو بعضهم. ينبغي له أن يعي بأنه إذا اختار معاونين ذوي شخصيات بارزة قائمة بذاتها، فقد تصطدم شخصيته بشخصيتهم وقد يزعجه هذا الإصطدام. فإذا لم يتجاهل هذا الواقع وقبل ما يفرضه عليه من تضحيات، يمكنه بالإنطلاق من هنا أن يجتهد في تخفيف حدة هذه الإحتكاكات بمحبته ومرحه.
واقعية المسؤول تفرض عليه أن يذعن لضرورة تسليم بعض مسؤولياته لأفضل مرؤوسيه ليدربهم على المسؤولية ويهيئهم لتحمل أعباء أثقل ومتابعة العمل إذا احتجب هو. ان مشكلة تُطرح على كل مسؤول بهذا الصدد، الا وهي: أيجوز لي أن أسلّم عملاً لإنسان لم يختبره بعد وأسمح هكذا بأن يتدنى مستوى هذا النشاط ويخف الإنتاج فيه؟ من الخيال بمكان أن يعيش المسؤول في وهم ديمومته وأن يعلّل النفس بأنه، إذا احتجب، سيبرز من يقوم مقامه على نوع من التولد الذاتي. الواقعية تفرض بأن توزع المسؤوليات ولو أدى ذلك إلى تدني مؤقت في المستوى، لأنه بهذه الطريقة فقط يتدرب مسؤولون جدد قد يتوصلون فيما بعد إلى بلوغ المستوى الأصلي أو تجاوزه. بالإنطلاق من هذا الواقع، يمكن للمسؤول أن يعهد تدريجيًا بالمسؤوليات المختلفة لمعاونيه، متلافيًا قدر الإمكان خطر الفشل أو التقهقر بمساندته لهؤلاء المعاونين دون اقتحام مسؤولياتهم.
واقعية المسؤول تفرض عليه أخيرًا الصبر. انه يعلم أن النتائج العميقة لا تحصل الا ببطئ، أن الخمير يحتاج إلى وقت لتخمير العجنة كلها، وأن البذار يبقى تحت الأرض شهورًا، وأن المخاض الروحي كالمخاض الجسدي قد يكون طويل الأمد أليمًا. ويستلهم صبره ومحبته لله وللذين عُهد بهم إليه من الله. لا يتسرع المسؤول، لا يطالب بنتائج عاجلة- فالسعي وراء النتائج السريعة كثيرًا ما يخفي سعيًا وراء ارضاء الذات برؤية هذه النتائج – انما يتخذ حلم الله وتأنيه. يكتفي بالزرع ولا يطالب بفرح الحصاد كحق مكتسب له، لأنه لا يطلب ما لنفسه، ولا يعتبر نفسه شيئًا، بل يكفيه بأنه ألقى بذار كلمة الرب في القلوب وبأن الله أهّله بأن يكون “عاملاً معه” على حد تعبير الرسول، وهذا وحده حريّ بأن يملأه فرحًا وفخرًا. إن اعطاه الله أن يرى نتائج لعمله، يفرح ويشكر، وإن لم ير تلك النتائج فهو يشكر أيضًا ويترجّى ويثق. لا ييأس المسؤول لأنه يعلم أن نعمة الله تعمل في الخفاء، وفي سر القلوب تتابع سيرها المتأني، المترفّق. “يشبه ملكوت الله انسانًا ألقى الزرع في الأرض. فسواء أنام أم استيقظ، في الليل والنهار، فالزرع ينبت وينمو، ولا يدري كيف” (مرقس 4: 26 و27). موقفه ليس موقف التفاؤل الرخيص ولا موقف اليأس- فكلاهما ليسا بمسيحيين وكلاهما لا يوافقان واقع الأشياء العميق- بل موقف الرجاء الذي فيه يلتقي الخوف بالثقة، بثقة أقوى من الخوف، لأنها ثقة بالله، ذلك الرجاء الذي دعاه مونييه “التفاؤل في المأساة” optimisme tragique. المسؤول يتأنى ويرفق- دون أن ينفي ذلك استعمال الشدة من حين إلى آخر إذا اقتضى الأمر- يحترم سرعة نمو كل واحد والطرق الخاصة التي يُقبل بها إلى الرب، لأن قصة الله مع كل انسان قصة فريدة. الرب يدعو خرافه بأسمائها أي أنه يراعي شخصية كل منها. كذلك المسؤول يقبل الآخر كآخر ولا يفرض عليه قالبًا من صنعه.
11- المسؤول يضع نفسه في يد الله: المسؤول يعمل في حقل الله. لذلك يجب أن يعتبر دومًا عمله وسيلة غايتها الله. النشاطات الحركية كلها تفقد فائدتها ومعناها إذا أصبحت غاية بحد ذاتها، فالطريق لا تسمى طريقًا إلا إذا استقطبها هدف.
لذا فالمسؤول الحق يكرس ذاته ويكرس عمله لله. إنه يضع ذاته ويضع عمله في يد الله وتحت نظره.
ان اكتساب الصفات التي لا بد منها للرئيس والتي ذكرناها آنفًا من انكار للذات وتجرد وتواضع وانفتاح وتفهم وصبر… والتي تعود كلها إلى المحبة كإلى ينبوعها، ان اكتساب هذه الصفات وتلك المحبة يفترض أن يعيش المسؤول في إلفة مع الله الذي هو محبة، أن يتتلمذ وينفتح لتلك المحبة المطلقة التي تجلت لنا إلى أبعد حد في المسيح يسوع والتي أعطينا أن نصبح لها مساهمين في الروح القدس: “فان محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس…”
المسؤول الحق هو من قبل في كل لحظة دينونة وتقويم محبة الله الكاملة لمحبته الناقصة المتعثرة.
يجب أن لا يغرب عن بال المسؤول أنه يحمل كنـز الكلمة الإلهية والدعوة السامية التي دعي اليها “في إناء خزفي” على حد تعبير الرسول. هناك تجربة تهدده إذ ربما شعر انه ضعف روحيًا أو ارتكب زلة، فعوض أن ينهض بالتوبة، يترك كل شيء متعللاً بأنه لم يعد أهلاً لمسؤوليته. ان في موقف كهذا لخطر روحي، لأن كثيرًا ما يستتر فيه وراء التواضع الظاهر، كبرياء خفية ورغبة محجوبة في التهرب من العمل والجهاد. لا يمكن للمسؤول أن يقول انني ضعيف وخاطئ، إذًا أترك خدمة الله، كأننا نحن الذين اخترنا الله وليس هو الذي اختارنا والذي يُظهر قوته المشعّة والمحيية في ضعفنا وحقارتنا، وينقذ بنا آخرين فيما نحتاج نحن في كل لحظة إلى الخلاص. قد يكون هذا بدء الفتور والإنهيار عند البعض من أفضل المسؤولين أن يجتاحهم شعور الكره لأنفسهم والإشمئزاز من عملهم لأنهم لم يحققوا الغاية التي كانوا يصبون اليها. ولكن برنانوس Bernanos يقول بحق: “أنه أسهل مما يتصورون أن يكره الإنسان ذاته، النعمة هي أن ينساها”. قد لا يكون كره الذات سوى مظهر للنرجسية، نتيجة خيبة الأنا الذي لم يحقق الصورة المثالية التي كان يرسمها عن نفسه. ولكن المسؤول الحق لا ينشغل بأناه وبكمال هذا الأنا، انما شغله الشاغل التلبية الحبية لنداء الله. لذا فانه لا يهتم فوق اللازم بتخبطات قلبه لأنه منشغل عنها بالإصغاء إلى دعوة الله: “وأن بكتتنا قلوبنا، فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء” (1 يو3: 20).
المسؤول الذي يعي قلة أهليته للرسالة التي دعي إليها، الذي يشعر بالتفاوت العظيم بين ما يصبو اليه وبين ما حققه بالفعل، الذي يعي كم العلاقات مع البشر صعبة أحيانًا وكيف تفاجئنا من حين إلى حين أحداث لم نكن نتوقعها تعطل تصاميمنا إلى حد ما، المسؤول الذي يدرك أن شخصية كل ممن يهتم بهم لغز وأنه هو إلى حد ما لغز لنفسه، الذي يعرف صعوبة التحرر من الأنانية، المسؤول الذي خبر كل ذلك لن يستنتج منه، إذا كان بالفعل مؤمنًا، حلاًّ رخيصًا كالتخلي عن المسؤولية أو الاكتفاء بالقيام بها روتينيًا، انه بالعكس يستلهم من هذه المأساة ثقة متزايدة بالذي من أجله يعمل والذي منه وحده يستمد نورًا وقوة. مقياس الممكن وغير الممكن ليس بين يدينا ولكنه في يد الله الذي ليس أمر مستحيل لديه كما قال الكتاب. لقد كتب موروا Maurois: “نطاق الممكنات نطاق مطاط”. هذا ينطبق بنوع خاص على المسؤول المسيحي الذي لا حد لإمكانياته سوى مقدار انفتاحه للنعمة الإلهية الخلاّقة: “إنني أستطيع كل شيء بالذي يقويني”.
مجلة “النور”، العدد16 والعدد 17- 1963