الخطف والانخطاف!

mjoa Monday April 29, 2013 94

كنتُ قد كتبتُ، الأحد الفائت، القسم الأوّل من مقالة بعنوان “قصّة الحضارة ومناخ ضدّ المسيح”. هذه أستكملها، بإذن الله، في وقت موافق. أمّا اليوم فثمّة حادث طرأ يستدعي التّحوّلَ الكامل صوبه.

     في الثّاني والعشرين من الشّهر الجاري، جرى خطف أبينا المتروبوليت بولس يازجي، ملاك أبرشيّة حلب، هو ومطران السّريان الأرثوذكس، يوحنّا إبراهيم، فيما كانا في طريق العودة إلى حلب، قادمَين من الحدود السّوريّة التّركيّة. حتّى ساعة كتابة هذه المقالة، لم يكن هناك ما يؤكّد إطلاق سراحهما، ما أدخلنا في معاناة صعبة، في غمرة التّوتّر والضّياع القائمين، وفي خضمّ العواصف الّتي وحده الله يعرف أين يمكن أن تحطّ بنا، وما ستؤول بنا إليه!

     أنّى يكن الأمر، فنحن موقنون، كمسيحيّين، في هذه الأرجاء، أنّنا لسنا، بحال، مُلقَون في المجهول، بل بين يدي الله الحيّ على نحو أكمل! عندما تبحر السّفينة في مياه هادئة، فإنّ دور الإنسان يبدو كأنّه الأبرز، ضمن ما هو عارف به؛ والرّبّ الإله يشاؤه أن يكون في سلام، مع أنّ العليّ، والعليّ وحده، بمحبّته، هو الّذي يقود السّفينة في كلّ حال؛ ودور الإنسان، بعامّة، من حيث لا يدري، هو التّعاون مع الله بالقدر اليسير الّذي هو، طبعًا، قادر عليه. الإنسان، في كلّ مسألة، لا يضع أكثر من فلس واحد، فيما يضع الرّبّ الإله ألف دينار! فمَن ظنّ نفسه أنّه ليس في السّاحة سواه كان أعمى، وإلى عماه مغرورًا! أمّا عندما تبحر السّفينة في خضمّ أمواج خطِرة، فإنّ دور الإنسان، من جهة السّفينة، يتقلّص حتّى الاضمحلال. الرّبّ الإله، إذ ذاك، يشاء أن يأخذ أمر السّفينة، بصورة كلّيّة، على عاتقه، تاركًا للإنسان، وبخاصّة الإنسان المؤمن، أن يتجلبب بالتّوبة، ويتدرّع بالصّبر، ويتمنطق بالتّواضع، ويتسلّح بالصّلاة، ويقيم، بثبات، على الرّجاء؛ والرّجاء بالله لا يُخزي!

     لا شكّ أنّنا نمرّ، هذه الأيّام، في ظروف حرجة. معاذ الله أن يكون قد تخلّى عنّا! نحن مَن يترك الله، الله لا يتركنا! قد يبدو لعيوننا، أحيانًا، أنّه غادرنا؛ لكنّه باق معنا، فاعل فينا، بتواتر، تارة على نحو منظور، وتارة على نحو غير منظور. بإمكان مَن يشاء أن يهرب، أو أن يساوم أو أن يتخلّى عن أمانته لله هلعًا. وهناك مَن يستسلمون لليأس. في الظّروف الحرجة، دائمًا، غربلة! فيها يستبين، بخاصّة، إيمانُ الإنسان واتّكالُه على الله، أو عدم إيمانه وعدم استعداده للتّسليم الكامل لله. لا حقّ لنا أن نلوم أحدًا في ما يفعل. كلٌّ على قدر طاقته. وكلّ حرّ في أن يفعل ما يشاء. لكنْ، عليه، إذ ذاك، أن يدرك أنّه سيحصد ثمار ما يكون قد زرعه. ومع ذلك نعلم أنّ زمان الشّدّة، على إيلامه، لا يسمح به الله إلاّ للخير! المؤمن يزداد إيمانًا في المصاعب. والمتراخي في التّوبة يصحو ويقدِّم توبة أوفى. والفاتر في الصّلاة تمسي الصّلاة لديه حيّة وتَعمق. الاتّكال على الله يصير من حشا متحرِّق إلى عون الله ورحمته. التّسليم لله يمسي  حاجة كيانيّة لا طاقة للمؤمن على الاستمرار من دونها. يختبر الإنسان وجع المسامير في يديه ورجليه، والطّعنة اللاّهبة في جنبه، والاختناق؟! هذا كلّه صحيح! في كلّ امتحان، هذا أمر واقع ولا بدّ منه! هذا امتدادٌ لصليب المسيح مغروزًا في لحمنا! ولا يمكن للإنسان أن ينمو في الرّوح، ما لم يمرّ بمثل هذه الخبرة، قليلاً أو كثيرًا، بقدر أكبر أو بقدر أقلّ! الهروب من الصّليب هروب من الخلاص! مَن له تَعَبٌ وجهاد وألم ومعاناة في المسيح بثبات، يُعطى نعمةً وبركة، وينمو في القامة، ويُزاد. ومَن يقضي عمرَه باحثًا عن الله في الرّاحة، لا يشاء أن يُجهِد نفسه لأجل حقّ الإنجيل، طالبًا ما يخدِّر حسّه ويُعفيه من ألم الثّبات في الأمانة لله، ولا يرغب، أو حتّى لا يطيق، أن يعاني محبّةً بالله، فهذا، ما يكون قد أُعطي له من فُرصٍ وطاقات ومواهب تؤخذ منه، ويُترك خاويًا، يتمرّغ في الوهم والقلق والخيلاء، ولا يكون له من الإيمان بالرّبّ يسوع إلاّ اللّغو والادّعاء، كنحاس يطنّ أو كصنج يرنّ (1 كورنثوس 13: 1)!

     بالعودة إلى الكلام عمّا نَعبر به هذه الأيّام، في هذه الدّيار، نحن لسنا، فقط، من تراب هذه الأرض، ولا من نسيج شعوب هذه المنطقة، ولا من الأطياف المكوِّنة، من أقدم الأزمنة، لهذه البلاد؛ نحن، أوّلاً، وقبل كلّ شيء، رسلُ المسيح هنا، نمدّ صليبه وروحه ومحبّته وكلمته وحضوره! نحن لسنا، هنا، لأنفسنا. ما يُفترض بنا أن نكون إيّاه هو ملح الأرض ونور العالم! كعدد، نحن لسنا بشيء. وكقوّة، نحن أضعف من سوانا. نحن قطيع صغير. قيمة وجودنا، ههنا، ومعناه من أمانتنا للرّبّ يسوع، وإلاّ لا قيمة لوجودنا ولا معنى. نحن باقون، ههنا، لا بالصّدفة ولا لأنّنا أذكى من غيرنا، ولا لأن بإمكاننا، بمناسبة وبغير مناسبة، أن نحصّل حقوقنا كطائفة. نحن باقون، ههنا، بنعمة الله! ولو كان الله ليتخلّى عنّا، أو، بالأَولى، لو كنّا لنعتمد على أنفسنا، بالكامل، من دون الله، لما كان بإمكاننا أن نصمد، ههنا، يومًا واحدًا. نحن هنا، وما زلنا هنا، لأن فينا، بعدُ، مَن يشهد لله وما نشهد به لله. فقط إذا ما حافظنا على الأمانة لله وكلمة الله نبقى. وإن أبقانا الله فلا قوّة في العالم تقدر أن تشلعنا من تربة هذه الأرض! إذا لم يكن هذا إيماننا، وهذه قناعتنا، في العمق، فويل لنا! الله زرعنا هنا لنبقى طالما شاء هو ذلك! “لا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي”، قال الرّبّ يسوع (يوحنّا 10: 29)! هنا وُلدنا، وهنا نعيش في المسيح، وهنا نموت! نحبّ الجميع، أو ينبغي أن نحبّ الجميع، لكنّنا نحبّ الله أكثر! نخاف النّاس أحيانًا؟ طبعًا، نحن بشر! لكنّنا نخاف الله أكثر، ومخافتنا الله قادرة على أن تبتلع خوف النّاس من قلوبنا! متى حانت السّاعة، ساعة مواجهة الموت من أجله، فنحن عارفون بعجزنا سلفًا، لكنّنا عارفون، أيضًا، بأنّه قادر أن يجعلنا جبابرة! نموت؟ نعلم أنّنا سنموت! المهمّ أن نموت ثابتين على الإيمان بيسوع إلى المنتهى! خير لنا أن نموت من أجل الرّبّ يسوع من أن نعيش من أجل أنفسنا محبّةً بالعالم!

     أمّا بعد، فنحن نبتهل إلى الله أن يُعيد المطرانَين المخطوفَين سالمَين. هذا يعزّي ويشدّد ويثبِّت، لا سيّما المتقلقلين بيننا! لكنّنا نبتهل إلى الله، أوّلاً، أن يشدِّد الأسقفَين، حيثما كانا، ليَثبتا في الأمانة والشّهادة لمسيح الرّبّ ثباتًا كاملاً، وأن يردّ عنهما احتيالات العدوّ فلا يخورا. هذا فصل من معركة لا ضدّ لحم ودم، لأنّ “مصارعتنا هي… مع الرّؤساء، مع السّلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدّهر، مع أجناد الشّرّ الرّوحيّة في السّماويّات” (أفسس 6: 12).

     ليعملْ أهل السّياسة في السّياسة ليحرّروهما، هذا مبارَك! ليعمل كلٌّ، في نطاقه، إن كانت له طاقة، هذا فيه إصبعُ الله! أمّا الكنيسة فلتصِرْ منها صلاة بلجاجة إلى الله من أجلهما، كما صنعتْ لبطرس لمّا قَبض عليه هيرودوس الملك (أعمال 12). إذا ما كان مُرام إبليس أن يبثّ الحزن واليأس في النّفوس من جرّاء ما حدث، فمُرام الله – والله وحده الضّابط الكلّ – هو أن نعود إليه، وأن نعتمد عليه، وأن نبتهل لديه!

     نحن في طريقنا إلى أورشليم السّماويّة. إذا ما كانت مشيئة الله أن ندخل بآلامنا، اليوم، لا بطقوسنا وحدها، في مسيرة “هوشَعنا لابن داود. هوشعنا في الأعالي”، فليكن اسمُ الرّبّ مبارَكًا!

     المهمّ، اللهمّ، أن تتوب علينا ولو خطئنا إليك! إلى مَن نذهب، يا معلِّم، كلام الحياة الأبديّة عندك!

     هوذا يأتي بعد حِلكة اللّيل نورًا ساطعًا! آمينَ ربَّنا!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share