لقد مضى خمسة وعشرون عامًا على تأسيس أخوية تيزيه البروتستانتية. ونظرًا لأهمية هذه الأخوية من الناحية المسكونية أقدم للقارئ العزيز بعض المعلومات عنها.
1- تأسيس الأخوية وتاريخها:
أسس الأخوية شاب سويسري يدعى روجيه شوتز Roger Schutz. هذا الشاب نشأت فيه الدعوة إلى العمل المسكوني منذ طفولته وذلك، كما يروي لنا، بفضل والديه: “إنني مدين بدعوتي المسكونية لكرم والديّ. إنني لا أزال اليوم أذكر حديثًا جرى بينهما. كان يدور حول ايفادي إلى مدينة قريبة لأدرس فيها، وكان على والديَّ أن يختارا بين أن أكون نزيل عائلة بروتستانتية أو عائلة كاثوليكية. وكانت هذه الأخيرة فقيرة: كانت تتألف من أرملة فقدت مع زوجها كل مورد لها وأولاد كثيرين. كان والداي يرغبان في مساعدة هذه العائلة ماديًا بنـزولي عندها ولكنهما كانا مترددين بسبب إيمانها الكاثوليكي. ولكنهما اعتمدا في النهاية الحل الكريم.
وهكذا عشت كل طفولتي بين عائلتين، أحداهما كاثوليكية، وهي عائلة دروسي والأخرى بروتستانتية وهي عائلتي”.
وفي آب 1940، وقد كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، اختار روجيه قرية تيزيه في بورغونيا (وهي مقاطعة فرنسية) مركزاً للأخوية المستقبلة. اختارها بالإستناد إلى كلمة فلاّحة عجوز قالت له: “اشترِ هذا البيت وابق هنا، فاننا في عزلة كبيرة”. وهو يعلل قراره هذا بقوله: “لقد كان بامكاني أن اختار مكانًا آخر ولكنني اخترت تيزيه لأن المرأة التي قالت لي”ابق” كانت فقيرة وعلينا أن نسمع دائمًا في صوت الفقراء صوت المسيح”.
عاش روجيه شوتز وحده هناك مدة سنتين. وبما انه كان منذ البدء يريد استقبال الفقراء، اهتم بايواء اللاجئين السياسيين الهاربين من المنطقة المحتلة. وفي سنة 1942، احتل الألمان كل أرض فرنسا، فانسحب شوتز إلى سويسرا. هناك ظهرت الدعوات الأولى الجديدة ونشأت نواة الأخوية.
وفي سنة 1944، لما عاد شوتز إلى تيزيه، لم يأت اليها وحده بل كان برفقته ثلاثة أخوة عاشوا في تيزيه حياة مشتركة مركزة على الصلاة. ولكي يكونوا دومًا في خدمة الفقراء استقبلوا عشرين صبيًا مشردًا اهتمت بهم إحدى أخوات شوتز وكانت لهم أمًا فتمكنوا هكذا كلهم أن يشقّوا فيما بعد طريقهم في الحياة.
في سنة 1948، أقامت الأخوية التي أصبحت تضم خمسة أخوة، في يوم العنصرة، خدمتها الأولى في كنيسة القرية الكاثوليكية (والجدير بالذكر أن قرية تيزيه كاثوليكية بجملتها) بإذن من الأسقف والسفير البابوي.
وفي فصح 1949، كانوا سبعة أخوة قرروا أن يلتزموا نهائيًا بالنذور الرهبانية الثلاثة: العفة والطاعة والفقر.وذلك ليتفرغوا كليًا لعمل الوحدة بين المسيحيين ووحدة البشر التي تهدف اليها وحدة المسيحيين، ولكي يؤلفوا بتخلي كل واحد منهم عن كل ملك خاص أو عائلة خاصة أو إرادة خاصة، شركة بكل معنى الكلمة أشارة ودعوة للوحدة المنتظرة. لاقت هذه الفكرة مقاومة في الأوساط البروتستانتية التي كانت منذ مارتن لوثير، غريبة بالكلية عن فكرة الرهبنة، وقد دامت هذه المقاومة عشرين سنة كانت عبئًا ثقيلاً على هؤلاء الذين كانوا قد كرسوا ذواتهم لعمل الوحدة والمصالحة فوجدوا أن طائفتهم نفسها لم تفهمهم ولم تؤيدهم. ولكن هذا الشتاء القاسي، كما يدعوه الأخ روجيه شوتز، قد زال الآن تمامًا وأصبحت الكنائس البروتستانتية في العالم أجمع تهتم بتيزيه وتبدي لها المودة وتطلب مساعدتها. وقد أظهر هذا التغيير الذي حصل منذ فترة وجيزة تحولا في عقلية المسيحيين ونموًا في الروح الإتحادية عندهم.
هذا الاعتبار والتقدير لاخوية تيزيه لا يأتيها الآن فقط من الكنائس البروتستانتية بل من المسيحيين على اختلاف مذاهبهم وذلك بالنظر للدور المسكوني الذي تلعبه هذه الأخوية.
ومن مظاهر هذا التقدير أن ممثلَين عن الأخوية قابلا في تشرين الثاني 1958 قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين، وان لقاء مع قداسة البطريرك أثيناغوراس قد تم في شباط 1962. وقد اشترك ممثلان عن تيزيه بصفة مراقبَين في مجمع الفاتيكان الثاني.
وفي سنة 1964 كانت تضم الأخوية خمسة وستين أخًا يبلغ متوسط أعمارهم من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين عامًا، ينتمون إلى نحو عشرين كنيسة بروتستانتية مختلفة (من لوثيرية ومشيخيه واسقفية وغيرها) وإلى بلاد متعددة منها فرنسا وسويسرا والمانيا وهولندا والدانمرك وأسوج والولايات المتحدة.
2- حياة الأخوية:
أ- حياة الصلاة: الصلاة قلب حياة الأخوية. ذلك لأن العمل المسيحي كله لا يمكن أن ينبع إلا من الصلاة. يقول الأخ شوتز: “لكي يعمل الإنسان يجب أولاً أن يكون. ولكي نكون، لكي نوجد يجب أن نعود دائمًا إلى الينبوع، أي أن ننتصب أمام الله، أن نعيش في انتظار تأملي لله. من هذه الصلاة، من هذا الإنتظار لله، يمكن أن تنبع أعمال لو تمت خارج الصلاة تكون مشوهة”.
يجتمع الاخوة للصلاة ثلاث مرات كل يوم، صباحًا وظهرًا ومساء. ويجتمعون أحيانًا لصلاة ليلية. أما الخدمة التي يقيمونها والمستوحاة من التقليد المسيحي، فهي تحتوي على تلاوة للمزامير وصلوات وطلبات وترانيم وقراءات كتابية. ويقام سر الشكر في الآحاد والأعياد وفي أثناء الإسبوع.
ب- حياة العمل: ينصرف الاخوة إلى العمل لكي يعيشوا منه ومنه يعطوا المحتاجين. أما عملهم فمتعدد الأنواع فمنه العمل الفني من رسم وصنع زجاج الكنائس وانتاج الأواني الخزفية الفنية (ومنها ما يعرض في معارض دولية وحتى في اليابان) والنحت، ومنه الطبع والنشر، ومنه البناء ومنه الزراعة (وقد أسس الاخوة منذ سنتين تعاونية زراعية يساهمون فيها مع سكان القرية، وقد وهبوا هذه التعاونية أراضيهم ثم تخلوا لها في العام الماضي عن بقرهم وآلاتهم، رغبة منهم في المشاركة التامة ورفض كل تملك، ولم يحتفظوا الا بحصة رمزية من دخل التعاونية السنوي) ومنه الطب ومنه العمل الفكري (فبعض الاخوة يهتمون بأبحاث لاهوتية والبعض بأبحاث في علم الإجتماع، والأبحاث هذه كلها مركزة حول العمل المسكوني).
ج- حياة الشركة: نظراً للإزدياد العددي قُسم الاخوة إلى ست “عائلات” (Foyers) تعيش كل منها في بيت لها. غاية التقسيم هذا تقوية روابط الشركة بين الإخوة. ويعاد كل سنة تقريبًا على صورة أخرى، لكي يتذكر الأخوة انهم ليسوا مجموعة شركات صغيرة متلاصقة بل شركة واحدة. ويلتقي الأخوة المنتمون إلى”عائلات” مختلفة في الكنيسة وفي اجتماعات عامة وسهرات وفي العمل.
د- استقبال الحجاج: لقد أصبحت تيزيه مكان لقاء المسيحيين في كافة الكنائس، من بروتستنت وكاثوليك وأرثوذكس، يأتون ليصلّوا من أجل المصالحة في كنيسة المصالحة ويلتقوا بعضهم ببعض أخويًا من أجل الحوار. أما كنيسة المصالحة هذه فقد وضع تصميمها أحد الأخوة وهو مهندس وتطوع لبنائها شبان المان على ارض فرنسا تعبيرًا عن المصالحة. بنيت لتستوعب الحجاج الكثيرين الوافدين إلى تيزيه، ودشنت في آب 1962. وقد كُتب على بابها: “يا من تدخلون إلى هنا، تصالحوا: الأب مع ابنه والزوج مع زوجته والمؤمن مع من لا يستطيع أن يؤمن والمسيحي مع أخيه المنفصل عنه”. يقول الأخ شوتز: “إن صلاة أخويتنا، وسط هؤلاء الحجاج، هي على نوع ما أن تقول معهم: “أنظر الينا يا رب، أنظر ما نحن عليه اليوم، منقسمين، يفصلنا التاريخ، عاجزين عن صنع الوحدة” ويضيف: “إن العمل المسكوني يبدأ دائمًا بمصالحة الإنسان مع الله، ثم بمصالحة الإنسان مع الإنسان في العائلة والمهنة والبيئة. ومن هذه المصالحة القريبة جدًا يمكننا فقط أن ننطلق نحو المصالحة الكبرى الشاملة، مصالحتنا كلنا في الكنيسة الواحدة”. لذلك يأتي رجال ونساء إلى هذه الكنيسة ليصلوا من أجل مصالحة زوجة مع زوجها وأخ مع أخيه ويطلبون من الأخوية أن تصلي معهم من أجل هذه النوايا: “اننا نحملها، يقول الأخ شوتز، في صلاتنا، متيقنين أن العمل المسكوني هو المصالحة”.
لقد فوجئ أخوة تيزيه بهذا السيل من الحجاج يتدفق على خلوتهم. ففي سنة 1963، قُدِّر عدد الذين أمضوا بضع ساعات أو بضعة أيام في تيزيه بمائة وخمسين ألف نسمة، يضاف اليهم نحو ثمانية آلاف من المؤتمرين من كاثوليك وبروتستنت ونحو ألف بروتستنتي أتوا لخلوات روحية وتلقي الإرشاد الروحي. ويزداد هذا العدد سنة بعد سنة.
كل هذا اقتضى بناء أماكن لإستقبال الزائرين وتأمين اللقاءات. وقد بنى هذه الأماكن متطوعون بإشراف بعض الأخوة.
ويعاون الأخوة في الأعمال الروحية والمادية التي يقتضيها استقبال الزائرين راهبات بروتستانتيات (أخوات غرانشان (Grand champ) وكاثوليكيات (أخوات سان شارل الدومينيكيات) ورهبان كاثوليك. ومنذ سنة 1964 يشترك أرثوذكس أيضًا في هذا الإستقبال (وقد أتى من اليونان شابان لاهوتيان لهذه الغاية) وقد ساهم شبان علمانيون من كل الطوائف في هذا العمل وتكونت من أجله حركة من الشبان البروتستانت من كافة بلاد أوربا.
وعلى صعيد الإنجازات المسكونية، يجب أن نذكر أن البناء السفلي في كنيسة المصالحة مخصص للخدم الكاثوليكية. ومن جهة أخرى، بناء على رغبة البطريرك أثيناغوراس، وضع في نيسان 1963 الحجر الأول لبناء مركز أرثوذكسي في تيزيه.
هـ- الاهتمام بالعالم المحتاج: وقد فكر أخوة تيزيه انه من صميم العمل الإتحادي الإنفتاح إلى الفقراء والمحتاجين وفكروا أن المسيحيين ينتمون بأكثريتهم إلى هذا الثلث من العالم الذي يعيش في بحبوحة متزايدة بينما الثلثان الآخران يتخبطان في فقر متزايد، مما يهدد العالم بالإنهيار، حسب تقرير العلماء. وفكروا بأن المسيحيين، إذا مدوا معًا يد المعونة إلى هذا الجزء المحتاج من العالم، يكونون قد خطوا خطوة كبيرة نحو تجاوز خلافاتهم الماضية وتحقيق وحدتهم ومن خلالها وحدة العالم أجمع. وقد ركزوا جهودهم على أميركا اللاتينية، تلك القارة المترامية الأطراف التي يسود فيها بؤس شديد.كان هذا بعد لقاء بأساقفة كاثوليك في تلك القارة وبنوع خاص بالأسقف لَرّان (Larrain) رئيس اللجنة الأسقفية لأميركا اللاتينية. فقد عبّر هؤلاء الأساقفة عن جزعهم تجاه المستقبل المظلم الذي يهدد هذه القارة حيث كان عدد السكان في مطلع هذا القرن سبعين مليونًا فأصبحوا الآن مائتين وعشرين مليونًا وسوف يصبحون ستمائة مليونًا في نهاية القرن. وكان بعض هؤلاء الأساقفة قد وهبوا أراضي الكنيسة لأفقر الفلاحين ولكنهم لم يستطيعوا أن يجهزوهم بالوسائل التي تمكن من استغلال هذه الأراضي.
فتطوع أخوة تيزيه لمساعدة هذه التعاونيات الزراعية التي أنشأها الأساقفة الكاثوليك ولمساعدة تعاونية أخرى بروتستنتية. وتم ذلك منذ مطلع سنة 1963. فأخذوا يرسلون المال لمساعدة ثماني عشرة مؤسسة منتشرة في القارة الأميركية اللاتينية من تعاونيات ومدارس مهنية وغيرها، مؤسسات تهدف كلها إلى رفع المستوى الإنساني والإجتماعي في تلك البلاد.
هذا المال هو من جهة محصول عملهم اليومي (وهكذا التقى أخوة تيزيه عبر الأجيال برهبان مصر الأقدمين الذين كانوا يعملون حصادين في خدمة المزارعين ويرسلون أجرة أتعابهم شحنات من الحنطة إلى فقراء الإسكندرية) ومن جهة أخرى نتيجة حملة تبرعات أنشأوها ودعوها “عملية الرجاء” (Opération Espérance) يساهم فيها كاثوليك وبروتستنت وغير مسيحيين بهبات فردية أو جماعية. ولنذكر على سبيل المثل أن الكاثوليك والبروتستنت في احدى المدن صاموا معًا اثناء الصوم الكبير وتبرعوا بالمبالغ الهامة التي وفروها بهذه الطريقة لعملية الرجاء.
“عملية الرجاء” هذه شهادة مسكونية رائعة. وللتعبير عن قيمتها الرمزية نذكر هذه الحادثة التي يرويها الأخ شوتز والتي بها ننهي تحقيقنا هذا، الا وهي أن رئيس الأساقفة الكاثوليكي لرّان Larrain المذكور آنفًا أرسل قبل مغادرته روما للراهب البروتستانتي الأخ شوتز خاتمه الأسقفي مع أحد الأساقفة أصدقائه قائلاً له: “أعطه لروجيه وقل له أن يحتفظ بهذا الخاتم إلى جانبه”.
“النور”، العدد 6، 1965