في العصر الأوّل للإسلام، أكّد المفكرون المسيحيون العرب في جدالهم مع مناظريهم من المسلمين أن مصدر الديانة المسيحية ليس بشرياً، بل إلهيّ. فالمسيحيّة، وفق هؤلاء، تناهض ذهنية هذا العالم، وتقتضي من أتباعها زهداً بالسلطة والمال، وتواضعاً في وجه الاستكبار، وبأن لا يقابل المرء الشرّ بالشرّ… يتناول ثاوذورس أبو قرّة الرهاويّ (المتوفّى عام 825)، أسقف حرّان الأرثوذكسيّ، والذي كتب بالعربية، هذه المسألة، ويورد في مقالته “ميمر في وجود الخالق والدين القويم” (تحقيق الأب إغناطيوس ديك، المكتبة البولسيّة) براهين عدة في شأن المصدر الإلهي للمسيحية.
يوجز ثاوذورس حججه بالقول إنّ المسيحية انتشرت على أيدي اثني عشر رجلاً من اليهود، “واليهود كانوا أسقط أمّة في الدنيا عند الأمم وأبغضها إليهم، وكانوا أنذل مَن في أمّتهم، لا حسب ولا نسب لهم في الدنيا يطمع فيهم أحداً وينقاد إليهم من أجله”. كما أنّ الاثني عشر “لم يكن لهم ملك ولا سلطان لينقاد إليهم أحد لقهرهم أو لخوفهم أو التماس العزّ بهم”. وهم كانوا أمّيّين “لم يكن فيهم مَن يفهم كتاباً ولا مَن عرف شيئاً من الحكمة الدنيويّة”. وكانوا يعلّمون الزهد بكلّ شيء، إذ “كانوا لا يرخّصون للناس في تناول شيء من شهوات الدنيا، ولا كثرة نسائها ولا لذّاتها ولا فخرها لينقاد الناس إليهم”.
لم يكن لدى هؤلاء الاثني عشر ما يغرون به الناس للدخول في ديانتهم الجديدة، بل على خلاف ذلك، كلّ ما فيها لا تقبله عقول الناس على اختلاف درجاتهم في العلم والمعرفة. وما يزيد غرابة إيمانهم هو قولهم إنّ الله بعث ابنه من السماء، وتجسّد من عذراء، وولد منها إلهاً وإنساناً، و”لمّا دعا اليهود إلى الإيمان به، لم يطيعوه، بل خالفوه، واجترأوا عليه، فضربوه وصلبوه، وقتلوه، ودفنوه وقام من الموتى بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء”. هذه كانت خلاصة ما حملوه بشارةً للدنيا قاطبة.
تصحّ أقوال ثاوذورس على القرون الثلاثة الأولى للمسيحية، فمعظم الوقائع التاريخية تفيد أن المسيحيّين لم يتقيّدوا دائماً بمقتضيات الإنجيل، فممالكهم لم تكن على مقدار قامة المسيح وتعاليمه. غير أنّنا، نحن المسيحيّين العرب، لم تكن لنا إمبراطورية أو مملكة، ولله الحمد، بعد ظهور الإسلام. ومررنا بظروف عصيبة، وبأخرى هادئة، تتعلّق بمزاجيّات الخلفاء والسلاطين والأمراء والولاة، وبقينا صامدين في ديارنا نحيا بنعمة الله وبركاته.
نحن، المسلمين والمسيحيّين، في أزمة خانقة. فالعنف الذي نشهده ما بين أهل الديانات والمذاهب لم نرَ له مثيلاً في التاريخ. بعض الإسلام بات أكثر عنفاً وعدوانيّة، وهذا لا يعني البتة تبرئة الأنظمة القائمة، من المحيط إلى الخليج، من مسؤوليتها عن هذا التردّي الأخلاقي والتخلّف الإنساني والتطرّف الديني.
لا شيء يمكن أن يثني المسيحيّين العرب، في زمن التكفير، عن التمسّك بديارهم وبإيمانهم. فهم أبناء القيامة، وتالياً أبناء الصليب، لذلك لن يخيفهم القتل والخطف، بل سيزيدهم تصميماً على البقاء شاهدين لأيّام فضلى آتية لا ريب فيها. ولنا في قول ثاوذورس أمثولة نقتديها: “لذلك نؤمن بهذا الدين، ونتّخذه ونتمسّك به، ونصبر على البلايا في الدنيا من أجله، للرجاء الذي وعد، ونموت على ذلك، ونؤمّل أن نلقى وجه الله عليه”.