إذا تأملنا شخصية القديس باسيليوس فإننا نستلهم منها عناصر أساسية للنهضة الروحية التي ننشدها في كنيستنا. لذا سنستعرض على التوالي ثلاثة وجوه لهذه الشخصية الفذة فننظر إلى باسيليوس كرجل فكر ورجل عمل ورجل صلاة وتأمل.
باسيليوس رجل الفكر :
مما يلفت النظر في الخدمة الطقسية التي تقام في عيد القديس باسيليوس أنه من ناحية يتلى هذا التحذير لبولس الرسول: “أنظروا أن يخدعكم أحد بالفلسفة …” ومن جهة أخرى يُمدح باسيليوس لأنه قضى شبابه بحب الفلسفة.
والتناقض ظاهري، ذلك أن الفلسفة سلاح ذو حدين، يمكنها أن تكون مرقاة إلى الله كما يمكنها أن تكون حجة لرفضه. يمكن للإنسان أن يستخدم قوى الفكر التي بثها الله فيه ليسعى إلى مصدرها فيمجده أو أن يحولها ضد معطيها ليكفر به. هذا من أسرار احترام الله الفائق لحرية مخلوقاته. فما يُحذر منه الرسول هو الفلسفة بالمعنى الثاني وما يُمدح عليه باسيليوس هو الفلسفة بالمعنى الأول.
فقد درس باسيليوس الفلسفة الشائعة في عصره، وهي الأفلاطونية الحديثة، وتضلع فيها. ولكنه كان يفحص كل شيء بفكر المسيح الذي وُضع فيه بالإيمان، حسب قول الرسول “امتحنوا كل شيء وتمسكوا بما هو حسن”. كانت فلسفة عصره من مصدر غير مسيحي إلا أن باسيليوس فهم أن الإنسان، بالنظر لصورة الله الباقية فيه رغم سقوطه، إذا سعى بإخلاص إلى الحقيقة، لا بد له أن يحصل ولو على أجزاء منها، وان كان سعيه غريباً في الظاهر عن خط المسيح. فهم أن كل ما هو حق وعدل وخير وجمال في الكون وفي الفكر البشري، ولو بدا خارجاً عن المسيح، هو في الحقيقة وفي الأعماق منه وفيه وله. لذا لم يتهرب من الحوار مع فلسفة عصره بل جابهها بإيمانه المسيحي واحتفظ منها بالعناصر الخيّرة فأحياها وكملها وأعطاها كل مداها بربطها بالوحي الإلهي. هكذا عمّد باسيليوس فلسفة عصره وسكب في تعابيرها مضمون إيمانه فتمكن هكذا من نقل هذا الإيمان إلى معاصريه باللغة التي كانوا يألفونها مغلّفاً الحقيقة الأبدية بقالب العصر حسب كلمة الرب “كل كاتب يتتلمذ لملكوت السموات يشبه رجلاً رب بيت يخرج من ذخائره جدداً وقدماً”.
هذا ما يحتاج إليه عصرنا حاجة ملحة. لقد كان الناس في عهد باسيليوس منشغلين بالفلسفة، وفي أيامنا أيضاً، نرى التيارات الفكرية كالوجودية والماركسية والمذاهب المنبثقة عن التحليل النفسي تتعدى نطاق الأخصائيين لتطال عامة الناس وتُسيِّر إلى حدّ ما حياة الأفراد والجماعات. لذا وجب على المؤمنين، وخاصة المنشغلين بأمور الفكر بينهم، أن يدخلوا في حوار جريء مع هذه التيارات واثقين بان الحقيقة واحدة وبأن كل حق وخير في هذه النظرية وتلك لا بد أن يلتقي بالحقيقة الأزلية الشاملة المتجسدة في ذاك الذي قال: “أنا هو الحق”. فهكذا يُخصب إيمانهم ويقوِّم نتاج الفكر البشري. ومن جهة أخرى يغتني مفهومهم المسيحي للكون وللإنسان بكل اكتشافات ذلك الفكر الذي هو في الأساس هبة من الله وانطلاقة إليه. وهكذا يشهد المسيحيون، كما شهد باسيليوس، لجدة رسالة المسيح. تلك الرسالة التي هي كالينبوع المتدفق، دائماً هي هي ودائماً جديدة.