الأسبوع الفائت، عندنا، كان العنصرة؛ واليوم أحد جميع القدّيسين. إذًا نحن في مدى الكنيسة وعمقها. الكنيسة كجسد الرّبّ يسوع المسيح له المجد. “نحن أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه” (أفسس 5: 30). ولكنْ، هل جسد يسوع غير الرّبّ يسوع، أعني شخص الرّبّ يسوع المسيح؟ أتُرى الكنيسة جزء منه، امتدادٌ له، أم هي إيّاه بالذّات؟ أتُراها ضربٌ من المؤسّسة باسمه، أمْ هي حضورُه في الملء ممتدًّا إلى الأبد؟
لا هي جزء منه ولا هي مؤسّسة باسمه! عندما أسَّس السّيِّد سرَّ الشّكر أعطى تلاميذه – وإيّانا من خلالهم – جسدَه ودمَه. هذا يعني، عمليًّا، ذاتَه بالكامل. يومذاك أسّس الكنيسة! جسدُه بمعنى ذاته، ودمُه بمعنى حياته. عندما أبان الرّسول المصطفى أنّنا من الآن – من المسيح صُعُدًا – لا نعرف أحدًا حسب الجسد؛ وإن كنّا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكنْ الآن لا نعرفه، بعد؛ عندما أبان الرّسول ذلك أراد أن يلقي الضّوء على ما أسماه “الخليقة الجديدة” (2 كورنثوس 5: 16 – 17)، أي على الكنيسة الّتي هي إيّاه الرّبّ يسوع المسيح.
التّلاميذ عرفوا الرّبّ يسوع، قبل القيامة والصّعود والعنصرة، بالجسد البشريّ. أمّا نحن فنعرف الرّبّ يسوع في الرّوح القدس. هذا لا يجعل معرفتنا به ومقاربتنا له بمعزل عن بشرته، بل يجعلها معرفة من نوع جديد: إلهيّة بشريّة، أو قل: إلهيّة في البشرة! لا إلهيّة فقط بل إلهيّة بشريّة. ولا روحيّة فقط. الرّوح البحتُ نحن لا نعرفه. لذا متى قلنا “روحيّة” عنينا ما هو بشريّ ولكنْ متروحنًا. ما هو روحيّ ولكنْ في البشرة كواحد وإيّاها.
تجسُّدُ المسيح أتى بنا إلى خليقة جديدة، نتعاطى، فيها، الرّوحَ بشريًّا، كما نتعاطى البشرة روحيًّا! مَن يَحسبون أنّ ثمّة فصلاً، بعدُ، بين ما للجسد وما للرّوح، وأنّ للجسد جسديّاته، فيما الرّوحيّات قصْرٌ على ما للرّوح، يخطئون! الجسد، في ذاته، عند ربِّك، لا ينفع شيئًا، الرّوح هو الّذي يحيي! لقد بتنا في حيِّز آخر جديد بالكلّيّة من الوجود. في المسيح، نحن نتعاطى كلّ ما للإنسان، من أبسط أموره إلى أعقدها، ولكنْ روحيًّا، أو قل تجسّديًّا، لا جسديًّا، أي على نحو إلهيّ بشريّ!
هذا المعطى الجديد، هذا الكيان الجديد، هذا الواقع الجديد، ومن ثمّ هذا المدار الجديد، هو إيّاه الكنيسة! وما دام الأمر كذلك فالجسد في الكنيسة واحد، وكنيسة الجسد واحدة، لأن هذا هو إيّاه، في كِلا الحالين، المسيح الرّبّ. كذلك الرّوح في الكنيسة واحد، إذ وحده يعطينا أن نكون من المسيح الواحد وأن نحيا فيه. على هذا، لا يمكن الكنيسة إلاّ أن تكون واحدة، وفي كلّ حال. لا أحد ولا قوّة، خارج المسيح، يهدِّد وحدة كنيسة المسيح. وحدتها بديهيّة! فلا المسيح قابل للتّجزئة ولا روحه القدّوس!
عندما نساهم القدسات، فإنّنا نأخذ، من المنظور، ما هو جزء؛ ولكنْ، هذا الجزء المنظور، المحسوس، يحوي المسيحَ كلَّه واحدًا غيرَ منظور، وكذا الرّوحَ كلّه. بكلام آخر، وربّما أدقّ، اللاّمنظور يتجلّى في المنظور، كما في الكتاب المقدّس، أو كما في الأيقونة!
من هنا كون الكلام على كنيسة منقسمة تصوّرٌ غير صحيح. المسيحيّون وحدهم ينقسمون فئات متخالفة وفرقًا متصارعة. لكنَّ الكنيسة شيء والمسيحيّين شيء آخر. الكنيسة قائمة، ربّما، في هذا أو ذاك ممّن نعتبرهم مسيحيّين، والمسيحيّون في الكنيسة. غير أنّ الكنيسة ككيان والمسيحيّين كجماعة لا يتماهيان! طبعًا، في الاستعمال تَرِد لفظة “كنائس” بمعنى “جماعات المؤمنين”، هنا أو هناك. ولكنْ، في الاستعمال الأساسي والعميق، لفظةُ “الكنيسة” تَرِدُ بمعنى “جسد المسيح”. لذا متى أردنا أن نستدلّ على إحدى الجماعات/ الكنائس القويمة نقول: الكنيسة الّتي هي هنا أو هناك، إشارة إلى الكنيسة الواحدة في كلّ جماعة أو مكان، الكنيسة الواحدة في ملئها، في الرّوح والحقّ، هنا أو هناك. فإذا لم يكن ملءُ الكنيسة ووحدتُها متمثّلَين في مكان محدّد وجماعة محدّدة، فإنّنا لا نتكلّم، بالمرّة، على الكنيسة الواحدة الحقّ الّتي هي في هذه الجماعة وذاك المكان. في هذه الحال، حتّى ضمن الجماعة الواحدة، يمكن أن يكون الإنسان من الكنيسة، ويمكن أن لا يكون؛ أو قل: يمكن أن تكون الكنيسة فيه، ويمكن أن لا تكون. من الممكن، إذًا، أن تكون هناك كنائس، ولكنْ، هذا لا يعني، بالضّرورة، أن يكون كلُّ مَن هو من هذه الجماعات/ الكنائس في الجسد، في الكنيسة، في المسيح، ومنه! يجيء مثلُ ذاك من مسيحيّة ما، ربّما مزغولة، ولا يأتي من مسيح الرّبّ وروحه بالضّرورة!
ثمّة مَن يُحسَبون، إذًا، في جماعة كنسيّة دون أن يكونوا في الكنيسة الإلهيّة البشريّة الحقّ! بإمكان المسمّى مؤمنًا أن يكون انتماؤه إلى الجماعة الكنسيّة خارجيًّا: معمَّد، يدين بدستور الإيمان، يساهم القدسات، يتعاطى الأسرار الكنسيّة، وحتّى يصوم ويصلّي؛ دون أن يكون في الكنيسة، في المسيح؛ أي دون أن ينتمي، في الرّوح والحقّ، كما قلنا، إلى الكنيسة الواحدة الّتي هي جسد المسيح. طبعًا، الانتماء إلى جسد المسيح، أن يكون الإنسان عضوًا حيًّا في جسد المسيح، يتضمّن أن يكون معمَّدًا، كما يتضمّن كلّ ما ذكرناه أعلاه، ولكنّه يعني، أوّليًّا وجوهريًّا، أن يحيا في مستوى الإيمان الحيّ الفاعل بالمحبّة. الانتماء إلى الكنيسة بالمنظورات وحدها لا يكفي. نحن نَرى ما لا يُرى، ونحيا في مستواه، نلتزمه بالكامل، ولو اعتللنا، بسبب ضعفنا، بالخطيئة! نحيا في مستوى ما هو منظور من إيماننا بالرّبّ يسوع، ولكنْ من منطلق ما هو غير منظور، لجهة الإيمان الحيّ الكامل بالرّبّ يسوع والفاعل بالمحبّة!
هذه المكوِّنات/ الحقائق تطرح موضوع الوحدة الكنسيّة، أو قل تحتّم طرحه طرحًا لا بشريًّا، بل إلهيّ بشريّ. لا الوحدة موضوع صيغ إيمانيّة كلاميّة ولا شركة طقوس! لا هي مسألة رأس بشريّ واحد، ولا مجمع واحد، ولا هي مسألة إدارة موحّدة متكاملة! لا هي تراكم أجساد وتلاقي طوائف، ولا هي تلاقي رؤى أيديولوجيّة في تعاطي الجماعات، فيما بينها، أو في تعاطيها مع العالم! الوحدة الكنسيّة لها، طبعًا، هذا وذاك من الوجوه: صيغ إيمانيّة واحدة، أو موحّدة، وطقوس ذات بُنى أساسيّة واحدة، ومدبّرون ذوو مواهب مختلفة، وإدارات تسيِّر أمورها بلياقة وترتيب، وتعاون وتفاهم بين الأفراد والجماعات، هنا وثمّة. هذا كلّه وارد باعتبار واقعنا البشريّ المجتمعيّ، وبصفته المجال الّذي يمكن أن تثمر فيه الوحدة المسيحيّة الحقّ! لكن هذا كلّه ليس هو ما يحقّق الوحدة الكنسيّة، بل ما يتجلّى فيه التّعبير عنها! اعتبارُه الأساس في استعادة الوحدة، بعد الانقسام المزعوم للكنيسة، يقدِّم ويستعيض بما هو بشريّ نظريّ ترتيبيّ عمّا هو من الرّوح القدس الحيّ. كذلك، يجعل الرّوحَ، وتدابيرَ الرّوح، في مستوى الداعمة، في الأذهان، لتدابير البشر، بعضًا من تحصيل حاصل؛ أو قل صفةً تُضفَى على ما يرتئيه النّاس وفقًا لقناعاتهم ومصالحهم واستنساباتهم! بكلام آخر، ينسبون إلى روح الله ما هو منهم ولهم، وبذا يؤلِّهون ذواتهم، باختلاس ما لله، تاركين ما هو لروح الله، مِن الرّوحيّات، مسيَّبًا، مغمورًا! وفي ذلك ضلال كبير!
ليكن واضحًا أنّ وحدة الكنيسة محقَّقة، أبدًا، ويضمن استمرارَها روح الرّبّ. النّاس، كمؤمنين، يجعلون أنفسهم في مسار الإلهيّات، في الرّوح، في المسيح. يسلكون، بأمانة، في الرّوح والحقّ،؛ يتعاطون الأسرار الكنسيّة؛ يحفظون الوصيّة؛ يلزمون التّوبة؛ يتدرّعون بالفضائل المسيحيّة؛ يتسلَّحون، أبدًا، بالصّلاة، باسم الرّبّ يسوع؛ يثبتون في محبّة الله والإخوة؛ يتمِّمون الكلّ للمسيح في الحياة والممات! فإن أقاموا على ذلك، صاروا، في الرّوح، واحدًا والله، ومن ثمّ واحدًا فيما بينهم! وحدةُ الكنيسة لسنا نحن مَن يحقِّقها؛ وما يمكن أن نحقِّقه نحن، لجهة وحدة الكنائس، لا يتماهى، بالضّرورة، والكنيسة الواحدة، كنيسة المسيح والرّوح القدس، كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه! نحن، فقط، نشترك في الكنيسة الواحدة أو ننقطع عنها، ننتمي إليها أو نكون غرباء عنها بالرّوح والحقّ! إذًا، وحدة الكنيسة كائنة في الرّوح القدس؛ ثمّ بالرّوح تنعكس علينا في علاقتنا فيما بيننا. من تحت إلى فوق، ثمّ تتنزّل علينا، إلى ما هو فيما بيننا، لتجمعنا الواحدَ إلى الآخر، وترفعَنا، جميعًا، كواحد، إلى الآب الواحد!
على هذا، مَن يطلبون الوحدة المنظورة فيما بينهم، ولا يعملون حثيثًا من أجل أن يصيروا واحدًا والله، يقعون، من حيث لا يدرون، في الوثنيّات الكنسيّة، وتاليًا في النّفسانيّات الشّيطانيّة (يعقوب الرّسول)، ويهيِّئون لا لمجيء مسيح الرّبّ: “أيّها الرّبّ يسوع تعالَ”، بل لمجيء ضدّ المسيح، من حيث لا يدرون!
فيما تتّسع دائرة الارتداد الفعليّ الكبير، الّذي تحدَّث عنه الرّسول المصطفى بولس، في رسالته الثّانية إلى أهل تسالونيكي، وفيما يستمرّ، حثيثًا، عملُ الحركة المسكونيّة نحو الوحدة المزعومة للكنائس، يحقّ لنا أن نتساءل: هل القصد، في العمق، هو الكنيسة الواحدة، فعلاً، أم القصد شيء آخر؟ إذا كان القصد، بصدق، هو الكنيسة الواحدة، فلا شكّ أنّنا بإزاء مغالطة بحاجة إلى تقويم. أنوِّه، هنا، بموقف الأب جورج فلوروفسكي، إبّان تأسيس مجلس الكنائس العالميّ (1938)، الّذي حدّد، منذ البدء، أنّ الكنيسة واحدة، وأنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّوميّة هي المحافِظة الوحيدة على الوجدان الرّسوليّ، عبر التّاريخ إلى اليوم؛ وأنّ دورها، في مجلس الكنائس، هو مساعدة غير الأرثوذكس في استرداد ذاك الوجدان الرّسوليّ المفتقد لديهم. هذا إذا ما كان القصدُ، عن حقّ، هو الكنيسة الواحدة. أمّا إذا كان القصد آخَر، وهذا ما يبدو لناظر الكثيرين، فالخشية أنّ المرتجى الفعليّ هو توحيد الكنائس مقدّمةً لتوحيد ديانات أهل الأرض، دعمًا للتّعايش فيما بينهم، ما ينطوي، في أفهامنا، على قصد عميق هو، في نهاية المطاف، القضاء المبرَم، باسم وحدة الشّعوب، على كنيسة المسيح بإفراغها من مسيحها وروحها، وتأطيرها بالإطار العقليّ النّسبيّ. ومن ثمّ اعتبار مسيح الرّبّ واحدًا من مجمع آلهة مُحدَث! أمّا الكنيسة، فعليًّا، فيُصار إلى الفصل بين كونها المسيح إيّاه وكونها مؤسّسة باسمه! في هذه الحال، يُصار إلى الاكتفاء بهيكلها البشريّ الكلامي الحجريّ الطّقوسيّ التّاريخيّ التّنظيميّ! إحساسنا، في العمق، أنّ ما يطالعنا، في هذا الاتّجاه، هو، بالأحرى، مَسعى حثيثٌ إلى “متحفة” الكنيسة و”نفسنتها” ودهرنتها!
في هذه الأثناء، في غفلة عن الأنظار، وبعيدًا عن الأضواء الدّهريّة، على نحو ما جرى في مغارة بيت لحم، أصلاً، ثمّة “قطيع صغير” تَنْهَدُ النّفوسُ فيه إلى ربّها، مِن الّذين ينشدّون بروح الله إلى روح الله، في توق وشوق وولهٍ عارم إلى مَن فوق. هؤلاء تنبعث منهم رائحة الطّيب الإلهيّ لتنتشر فيما بين الّذين لم تتعطّل فيهم، بعدُ، المشام الرّوحيّة! وحدهم هؤلاء تتجلّى لهم وحدة الكنيسة بهيّة، كاملة في ملئها، فيما يبحث الأكثرون، في عَطَب بصيرتهم، عن الكنيسة العروس، المَقولِ عنها ضائعة! أين؟ في غياهب ظلمات العقل وظلال الموت، موت الحسّ الوجدانيّ القويم، بين ركام الأوهام والبدع المقامةِ بديهيّاتٍ مُحدَثة!
خلاصة الكلام أنْ أعطني، وكفى، هاجسَ قداسةٍ أصيلاً أدلّك على مَن يعملون، حقًّا، على إبراز تجلّيات وجه العروس، الكنيسة الواحدة الحقّ! بغير ذلك، عبثًا تبحث عنها وعبثًا تسعى إليها!