الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..” (عبرانيين 1 : 1 – 2)
وكلام الابن نعرفه بالروح القدس، الذي يعطينا فهم تقليد الكنيسة المكتوب (الكتاب المقدس)، والشفهي ( شهادة حياة الكنيسة)
… نورد فيما يلي أسبوعياً قبساتٍ من تجليات الرب في رعاياه الدمشقية (في أبرشية دمشق)، تعكسها لنا شهاداتٌ وعظاتٌ لآبائنا خدام الكلمة، الكارزين بالقائم من الموت لأجل خلاص العالم
عظة هذا الأسبوع لقدس الأرشمندريت متى رزق
الإنجيل ( متَّى 5: 14-19 ) :
قالَ الرَّبُّ لتلاميذِه: أنتُم نورُ العالَم. لا يمكِنُ أن تَخْفَى مدينةٌ واقِعَةٌ على جبلٍ، ولا يُوقَدُ سِرَاجٌ ويُوضَعُ تحتَ ٱلمِكْيَالِ لكِنْ على ٱلمَنَارَةِ ليُضِيءَ لجميعِ الَّذين في البيت. هكذا فليُضِئْ نورُكُم قُدَّام النَّاس لِيَرَوْا أعمالَكُمُ الصَّالِحَةَ ويُمَجِّدُوا أباكُمُ ٱلَّذي في السَّماوات. لا تَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُ لأَحُلَّ النَّامُوسَ والأنبياءَ، إِنِّي لم آتِ لأَحُلَّ لكِنْ لأُتَمِّمَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لكم إنَّهُ إلى أن تَزُولَ السَّمَاءُ والأرضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ واحِدٌ أو نُقْطَةٌ واحِدَةٌ من النَّاموسِ حتَّى يَتِمَّ الكُلُّ. فكُلُّ مَن يَحُلُّ واحِدَةً من هذه الوصايا الصِّغَارِ ويُعَلّمُ النَّاسَ هكذا، فإنَّهُ يُدْعَى صغِيرًا في ملكُوتِ السَّماوات. وأمَّا ٱلَّذي يَعْمَلُ ويُعَلِّمُ فهذا يُدْعَى عظِيمًا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَات.
باسم ألآب والابن والروح القدس الإله الواحد .آمين
إنجيلنا اليوم ، أيها الأحباء، مأخوذ مما هو معروف بالموعظة على الجبل وهي المقطع المؤلّف من الإصحاحات الخامس والسادس والسابع من إنجيل متى، فالجزء الذي نقرأه على مسامعكم نستهلّه بكلام الرب يسوع لتلاميذه بقوله لهم: “أنتم نور العالم”. وأن هذا النور صار بهم بكلام يسوع واكتمل فيهم بعد إضاءة نور قيامته وحلول الروح القدس عليهم وبقوله هذا يرتفع بهم ويرفعهم ويحسبهم كنور يضيء للعالم، إنه يقيمهم كالقمر الذي يستقبل نور شمس البرّ، ليعكس بهاءها على الأرض، فتستنير في محبّته. يعكس نوره على المؤمن، فيصير أكثر بهاءً من الشمس المنظورة، لا يقدر أحد أن يخفيه حتى وإن أراد المؤمن نفسه بكل طاقاته أن يختفي. لا يقدر أحد أن يسيء إليه، حتى مقاوميه الأشرار، يقول الرسول بولس: “لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب في وسط جيل معوجّ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار في العالم” (في 2: 15) .
لقد نادى التلاميذ وكَرَزُوا بكل الأمم بالمسيح “الكلمةِ” إِلهًا مُتَجَسِّدًا، ومن بعدهم تابَعَ آباؤنا القدِّيسُون (وهذا كان محور المجامِعِ المسكونيَّة المقدَّسة) هذه المسيرة، التي ما زالت مستمِرَّة إلى يومنا هذا بنعمة الرُّوح القدس. فالذي يكرز، بأي وقت كان وحيثما كان، بالمسيحِ إلهًا، هو تلميذٌ للرَّبِّ، وسيكونُ نورًا للعالم ليس بقوَّتِه الذَّاتِيَّة بل بقوَّةِ الرُّوح القدس الَّذي ناله يومَ نزل في جرنِ المعمودِيَّة، جرن الاستنارة الروحية، التي بها يشهد للنور الذي أوقد سابقاً وإن استمرار إيقاده يتحقّق من خلالنا، بجهادنا الروحي فتظهر أعمال الله بنا فيتمجد أبانا الذي في السموات.
من هنا يطرح السؤال نفسه إن كان المسيّح يطالبنا أن نعلن النور الإلهي الساكن فينا خلال حياتنا العمليّة، فتصبح حياتنا كسراجٍ ويتمجّد أبونا السماوي أمام الجميع، فما هي الوصايا التي نلتزم بها في حياتنا ؟ هل هي وصايا غير الشريعة الموسويّة؟ وهل تتعارض معها؟ فالجواب نراه بالآية التالية بقوله تعالى :”لا تظنّوا أني أتيت لأحلّ النامـوس والأنبياء. إني لم آت لأحلّ بل لأكمـّل”. ليس المعنى أن يسوع جاء ليحافـظ على فرائض السبت والختان ولا أن يـحافـظ على الهيكل. انه يـريد أن يـحافظ على روح الأحكام الموسوية، إنه جاء ليقـوّي الوصايا بعمقها، أن يـملأها مـن المـعـنى. “لا تقتل” الوصية القديـمة صارت تـعني أيضاً لا تـبغض، لا تكره، لا تـغضب على أخيك. يـسوع لم يـزد وصايا جـديدة بل جـمعها كلها في وصيـة المـحبة التي قـال عنـها بولس انها تُـكمل الناموس والذي اكتمل بيسوع بعد ان خضع لوصاياه دون أن يكسر وصيّة واحدة فبقوله “من منكم يبكّتني على خطيّة؟” (يو 8: 46 ( تظهر لنا مدى احترامه لوصايا الناموس والقول: “لا يـزول حرف واحد أو نـقطة واحـدة من النامـوس حتى يـتم الكل” تظهر أيضاً عدم نقضه له.
ويكمل يسوع قوله بأن “الذي يعمل ويعلّم فهو عظيم في ملكوت السموات”. المهم أن تعمل وتعلّم. العمل وحده بلا إيمان ميت هو. والإيمان بلا عمل ميت هو. الإنسان الكامل مَن جمع النشاطَين في كيان واحد. وهذا ممكن في المسيحيـة لأن العمل عندنا يأتي من المحبة والمحبة تأتي من الإيمان. أنت تحب الناس لأن الله أَحبك أولاً وأعطاك القدرة لأن تحب، فإذا أحببت الرب تذهب إلى خدمة الآخرين وأنت تدان على محبتهم كما يخبرنا متى الإنجيلي ويكون عندك صليب تفتخر به وهو يشهد لك ولأعمالك.
إذاً وبسبب الجمع بين التعليم والعمل أتت هذه الآية الأخيرة تبيّن لنا ترتيب الكنيسة لقراءة هذا النص الإنجيلي بعيد آباء المجمع المسكوني الرابع الذين نقيم تذكارهم اليوم والذين قاموا بالنشاط التعليمي والنشاط الخيري. فما حدّدوه لنا بأن المسيح ذو طبيعتين إلهية وإنسانية معا. جمع العنصرين في أقنوم واحد. ومن هذه العقيدة نـفهم بأن الإنسان أيضاً على غرار المسيح يجب أن يكون إلهياً على صورة الطبيعـة الإلهيـة في المسيـح وأن يكـون بشريـاً بآن وألا يفصل هذين العنصرين في شخصيّتـه فالعقيدة وجدت في الكـنيسة لنـحيا بـها ونسلك بـموجبها وهي لازمـة لخلاصنـا، فآباؤنا القديسون كانوا نوراً وكانوا شهوداً للنور الحقيقي وسلّموا لنا هذه العقائد لتبقى لنا مصباحاً يضيء في حياتنا وما علينا اليوم إلا المحافظة عليها خالية من كل شائبة ونسلّمها لأولادنا نقية بلا عيب فتصبح لنا حياة أفضل ملؤها المسيح سيدها وملكها إلى أبد الدهور.
آمين
الأرشمندريت متى رزق
14 تموز2013