منذ خمسة وعشرين وألف عام اعتنق الشعب الروسيّ الأرثوذكسيّة. ففي عام ٩٨٨، اقتبل “أمير كييف” القدّيس فلاديمير (عيده في الخامس عشر من شهر تمّوز) الإيمان الأرثوذكسيّ ونال المعموديّة المقدّسة، وكان عرّابه الإمبراطور البيزنطيّ باسيليوس الثاني. وأعلن فلاديمير أنّ الأرثوذكسيّة هي الديانة الرسميّة في روسيا، فاعتمد أهل كييف معموديّة جماعيّة في نهر الدنيبر على يد الكهنة البيزنطيّين الذين رافقوا الأميرة حنّة شقيقة الإمبراطور التي أصبحت زوجةً لفلاديمير.
المسيحيّة دخلت روسيا قبل معموديّة فلاديمير، غير أنّها انتشرت في كلّ بقاع البلاد الروسيّة بعد اعتناق فلاديمير المسيحيّة. فمن المعلوم أنّ المسيحيّة كانت موجودة في أرجاء المناطق الجنوبيّة المتاخمة للإمبراطوريّة البيزنطيّة قبل اهتداء فلاديمير، وكان ثمّة كنيسة صغيرة تأوي المسيحيّين القاطنين في كييف. فجَدّة فلاديمير لأبيه القدّيسة أولغا (عيدها في الحادي عشر من شهر تمّوز)، المسمّاة هيلانة في المعموديّة، قد اقتبلت المعموديّة حين كانت وصيّةً على العرش عام ٩٥٧. أمّا أبوه سفياتوسلاف فقد بقي على الديانة الوثنيّة، ولم تؤثّر فيه صلوات أُمّه أولغا لاعتناق المسيحيّة، إذ كان يعتبر ذلك بمثابة خيانة عظمى لتقاليد شعبه، وعارًا لا يُمحى.
كانت الكنيسة البيزنطيّة كنيسة إرساليّة، ترسل موفدين إلى كلّ المناطق غير المسيحيّة لتبشيرها باعتناق المسيحيّة. وفي القرن التاسع شهدنا نهضة رسوليّة ذهبيّة حقيقيّة، انتفع منها السلافيّون (الناطقون باللغة السلافيّة، أي الروس والبلغار واليوغسلافيّين…) بوجه خاصّ.فالأخوان الشقيقان القدّيسان كيرلّس (+٨٦٩) وميثوديوس (+٨٨٥)، اللذان أَطلقت عليهما الكنيسة لقب “المعادلا الرسل” (عيدهما في الحادي عشر من شهر أيّار)، قد بشّرا الشعوب السلافيّة قبل نحو قرن ونيّف من مجيء فلاديمير.
أمضى كيرلّس وميثوديوس طفولتهما في تسالونيكي (في شمالي اليونان)، وكانت تلك المدينة مزدوجة اللغة، وكانا يُتقنان إلى أبعد حدّ اللهجة السلافيّة المحكيّة في مقدونية. ثمّ تنسّك ميثوديوس منذ عام ٨٤٠، أمّا أخوه قسطنطين، الذي لم يتّخذ اسم كيرلّس إلاّ في نهاية حياته، فقد لمع في مهنته علاّمةً وديبلوماسيًّا. وحين طلب أمير مقاطعة مورافيا، في سنة ٨٦٢ مرسلاً يعرف اللغة السلافيّة، كان من الطبيعيّ أن يعيّن الإمبراطور ميخائيل الثالث كيرلّس وميثوديوس للقيام بتلك المهمّة.
بذل الأخوان، الناسك ميثوديوس والعلاّمة كيرلّس، جهودهما كلّها في سبيل تزويد المورافيّين ثقافة دينيّة حقيقيّة متأصّلة في الثقافة السلافيّة، بدءًا بالطقوس الليتورجيّة، فكانت العبادات كلّها تقام بلغة البلاد، وتُرجم الكتـاب المقـدّس إلى تلـك الـلغـة نفسهـا، وابتكـر كيـرلـّس أبجديّة أصبحت في ما بعد الأبجديّة الكيرلّسيّة، وهي ما زالت تُستعمل إلى يومنا في روسيا وسواها من البلاد السلافيّة. إلاّ أنّ مورافيا كانت موضع تنافُس سياسيّ شديد ما بين الشرق الأرثوذكسيّ والغرب الكاثوليكيّ. فكان ملك بافاريا، لويس الجرمانيّ، يريد أن يبسُط إليها منطقة نفوذه، وأرسل إليها هو أيضًا مُرسلين نظروا نظرة استقباح إلى نجاح المرسلين البيزنطيّين. وكانت الكنيسة اليونانيّة تعتبر أنّ استخدام اللغة المحلّيّة في العبادات ما يقارب البدعة. لكن على الرغم من هذه الصعوبات، الآتية من الغرب ومن الشرق، نجح الأخوان في ترسيخ الأرثوذكسيّة في تلك البلاد. وبعد وفاة الأخوين استفاد السلافيّون من غير المورافيّين من عملهما، فالكتاب المقدّس ونصوص العبادات انتشرا في بلغاريا أوّلاً، ثمّ في روسيا.
يروي كتاب “أخبار نسطور” قصّة اهتداء فلاديمير إلى الأرثوذكسيّة، وهي قصّة جديرة بالقراءة. تقول الرواية: “دعا فلاديمير نبلاء عاصمته وشيوخها، وقال لهم: ها قد جاء البلغاريّون (المسلمون) إليّ قائلين: تبنَّ شريعتنا. ثمّ أتى الألمان (الكاثوليك) واشادوا بشريعتهم. وبعدهم جاء اليهود، ومن ثمّ جاء اليونانيّون يذمّون جميع الديانات ويُشيدون بديانتهم… وكانوا يقولون: إن اعتنق أحدٌ إيماننا، فسيقوم بعد الموت ولن يموت ثانيةً، ولكن إن اعتنق إيمانًا آخر، فسيحترق في النار في العالم الآخر. فما رأيكم وبمَ تُجيبون؟”. فاقترح عليه النبلاء والشيوخ إرسال عدد من الرجال من ذوي الحكمة والمعرفة ليتبيّنوا ديانة كلّ أحد وكيف يُكرّم كلّ منهم إلهه، وذلك لأنّ “ما من أحد يذمّ ما له، بل كلّ واحد يُشيد به”.
فطاب هذا الكلام للأمير فلاديمير، فاختار عشرة رجال صالحين ذهبوا أوّلاً عند البلغاريّين، وما إن وصلوا إلى هناك حتّى رأوا “فظاعة أعمالهم وعبادتهم في جوامعهم”… ثمّ ذهبوا إلى بلاد الألمان وأبصروا خدمتهم الإلهيّة… وبعدها قصدوا القسطنطينيّة وحضروا القدّاس الإلهيّ في كنيسةآييا صوفيا (الحكمة المقدّسة)، وشاهدوا بعض الاحتفالات الكنسيّة. ولـمّا عادوا إلى كييف رووا لفلاديمير انطباعاتهم عمّا شاهدوه في القسطنطينيّة، فقالوا: “لم نعرف هل كنّا في السماء أم على الأرض، لأنّنا لا نجـد مثـل ذلك الجمـال علـى الأرض، ولذلك نعجز عن التعبير عمّا رأيناه. ولكنّنا نعرف تمامًا أمرًا واحدًا وهو أنّ الله يُقيم هناك مع البشر، وأنّ عباداتهم ليس لها مثيل في كلّ أنحاء الدنيا. لا يمكننا أن ننسى هذا الجمال الفائق، ولن يسعنا أن نحيا في روسيا من الآن فصاعدًا مثلما كنّا عليه سابقًا”.