رغم كلّ شيء الله معنا! (2)

mjoa Monday August 12, 2013 169

أن أتعلّق بإنسان متعلِّقٍ بالله حاجة. تعلّقُنا بالآخرين، إن كانوا متعلِّقين بالله، وكذلك تعلّقُ الآخرين بنا، إن كنّا متعلِّقين بالله، أمرٌ، أو قلْ، قاعدة تفرضها الطّبيعة البشريّة، بعامّة، ومن جهة ما لله، في معرض ما نحن في صدد الكلام عليه هنا، بخاصّة. ولكنْ، هذا يستدعي حذَرًا وتنبُّهًا! ثمّة خطر دائم يداهمنا علينا محاذرته لتلافيه وإلاّ تلحقنا مضار فاتكة. هذا الخطر يتمثَّل باكتفائنا بالتعلّق بالآخرين وتعلّق الآخرين بنا!

يخال لنا، في مثل هذه الأحوال، أنّنا إن تعلّقنا بمَن نحسبُهم متعلِّقين بالله فإنّ تعلُّقَنا بالله يتحقّق فينا بصورة تلقائيّة. هذا غير صحيح! هذا وَهْم! العصفور الّذي يبقى في وضع الحضانة أكثر من اللّزوم ينعطب! والطّفل الّذي يستمرّ والداه في معاملته كطفل فوق الحدّ يصير معوَّقًا! في هكذا وضع مخالفةٌ للطّبيعة وتعطيل لنمو الأجيال الصّاعدة! إذا ما كانت العصفورة لتسير بقوّة الغريزة، ومتى حلّت السّاعة، تُطلق صغارها، تلقاءً، ليعتمدوا على أنفسهم، فالإنسان يسير بقوّة الإدراك والحسّ، ويعتمد على التّربية الواعية الهادفة لا على تلقائيّة المسرى. لذا الوعي، في تعاملنا، الواحد مع الآخر، أساسيّ، على هذا الصّعيد، وإلاّ نهلك ونتسبَّب في هلاك سوانا!

     تجربتان، في هذا السّياق، تعرضان لنا ههنا: أن يكتفي أحدنا بدفء الشّعور بالأمان الّذي يأتيه من تعلّقه بإنسان ما. تلقاه كمَن لا يشاء أن يَكبُر! خوضه في علاقة شخصيّة مستقلّة مع الله مجازفة تقلقه! أن يُسْلِم نفسه لله أمر يخيفه! لعلّه لا يشعر بالحاجة لأن ينفطم عمّن تعلَّق به، أو لعلّه لمّا يتروَّضْ على تعاطي الإلهيّات، إلاّ بالوساطة!

     والتّجربة الثّانية: أن أتسبّب في تعلّق الآخرين بي ولا أشاء، من ثمّ، أن أُفلتهم لأنّ هذا يمتّعني بالشّعور بالأهمّيّة وطعم الألوهة ويمدّني بالإحساس بالعظمة! في مثل هذه الأحوال، أجدني في وضعٍ منحرف أختلس فيه ما لله، وأستخدم الآخرين استخدامًا بدل أن أساعدهم في التّحوّل إليه، لأنسحب، من ثمّ، قليلاً قليلاً، مؤدّيًا الأمانة لأصحابها نظير يوحنّا المعمدان، أَنقُص في مَن يأتون إليّ ليزيد الله فيهم، وأتوارى، تدريجًا، ليبقى اللهُ، واللهُ وحده، في الصّورة لديهم!

     أهمّ ما في تعلّق الإنسان بالله أن يمّحي أمامه ولا يطلب، بإزائه، شيئًا لنفسه، وأن يتركّز همُّه في إتمام مشيئة ربّه وأن يُسلمه ذاته بالكامل.

     هذه كلّها معايير داخليّة، والباحث عمّن يعتبره “أبًا روحيًّا” قد يؤخذ بالمظهر. الفرّيسيّة واردة دائمًا. ولكنْ، أصالة الباحث عن العلاقة الحقّ بالله تُوجِّه وتحفظ. الله، إذ ذاك، يكون هو الموجِّه. يأخذنا على عاتقه! حتّى لو وقع ذو القلب الخاشع المتواضع بين يدي ذئب لا راع، فإنّ روح الرّبّ، إذ ذاك، إمّا يغيِّر ذئبيّة الرّاعي المزعوم، ويجعل ذئبيّته في خدمة الخروف المودَع ذئبًا؛ وبذا يُحدِث الرّبُّ الإله ما لم يكن في الحسبان، إذ يَهدي المقدَّمُ “ابنًا” الأبَ المزيَّف إلى التّوبة والخلاص، كما هدى الأخ أكاكي شيخَه الفظَّ المتواني، في رواية سلّم الفضائل (المقالة الرّابعة. في الطّاعة. المقطع 110). وإمّا أن يجعل روحُ الرّبّ الابنَ المتتلمذَ لشيخ مزيّف، يعي الخلل المؤذي في قلب “الأب” المزعوم فينصرف عنه! الموضوع، أوّلاً وأخيرًا، هو: ماذا يريد طالب “البنوّة” في قرارة نفسه؟ فمَن كان قلبُه لله حقًّا فإنّ الرّوح يسوسه ويدبِّر أمره، لأنّ الطّاعة، في مداها الحقّ، لا يمكن أن تكون إلاّ لله، ولله وحده، في الإنسان المنشود “أبًا روحيًّا”، ولو عن غير قصد منه. أمّا مَن لم يكن قلبه لله حقًّا، واغتيل بشكليّة الأمور وسطحيّتها، فإنّ الشّرّير يخدعه، بيسر، ويوقعه بين يديّ واحد من ذوي السّيرة الملتوية. المهمّ الأهمّ أن يلتمس “الابن الرّوحيّ”، في عمق نفسه، وجهَ ربّه بصدق! أمّا الباحث عن الظّواهريّة، الطّالب ما هو اسميٌّ انفعاليّ، المكتفي من الإلهيّات بشكلها الخارجيّ، فإنّ علاقته بمَن يدّعي أنّه لله تتحوّل من علاقةِ تَبَنٍّ في المسيح إلى علاقة أدنى إلى العبادة الشّخصيّة! يمسي الله، إذ ذاك، لديه، خارج الصّورة، وتستحيل الحياة الرّوحيّة، في وجدانه، علاقات فكريّة أو عاطفيّة سمجة تصل إلى حدود تأليه البشر!

     الوثنيّات، بعامّة، في التاريخ، من هنا مصدرها. نتعلّق بالنّاس أو يفرضون أنفسهم علينا، فنصير عبيدًا لهم أو نعاملهم كأنصاف آلهة وآلهة، أو يستعبدوننا ويُلزموننا بالتّعامل معهم كأنّهم من نسل نبتون أو جوبتير! هذا يقابله، اليوم، ادّعاؤهم الصّريح، أو حتّى المبطّن، أنّهم يتكلّمون باسم الله وأنّهم قدّيسون ويتكلّم الله فيهم، وأنّ الطّاعة لهم هي طاعة لله، أو أنّ طاعة الله لا تكون إلاّ بالطّاعة لهم!

     لسنا، بعدُ، عبيدًا للنّاس. إن كنتُ، بعدُ، عبدًا للنّاس فلست خادمًا للمسيح! إنّه لأمر مثير للقلق أن يبحث كثيرون بيننا، بعدُ، عن الأمان باستعباد أنفسهم للبشر، فيما يجعلنا روحُ الرّبّ للحرّيّة والمحبّة الحقّ، ويُطلقُنا لنبحث، بالإيمان الحيّ، عن وجه الله باستعباد ذواتنا له وحده ولوصاياه، ولنغسلَ أقدام الإخوة، طبعًا، ولكنْ باسمه ولمجد اسمه وحده! مَن لا يَعمل على محو نفسه، اتضاعًا، بإزاء ربّه، في تعاطيه نفسَه وتعاملِه مع العباد، وكذا مَن لا يتركّز همُّه في التماس الامّحاء في طاعة الله في الآخرين وخدمتِهم بلا غرضٍ شخصيّ، فإنّه يبقى مقيمًا في وادي ظلّ الموت، خادعًا نفسه والآخرين، وظانًّا نفسه، كذِبًا، في كنف الله! الإنسان الّذي لا يتروَّض على أن يتخلّى عن مشيئته بإزاء قولة ربّه، فإنّه يقع، لا محالة، في أشراك إبليس. يُستأسَر لأهواء البشر، ويؤخَذ عبدًا للنّاس باسم الله، فيَلقَى ذاته، من حيث يدري ولا يدري، يتمرَّغ في أوحال خطاياه وخطايا الآخرين!

     التّحدّي الثّاني الكبير، إذًا، في كلّ زمان، واليوم، بخاصّة، هو أن يحرصَ كلُّ واحد منّا على أن يحفظ الأمانة لربّه كاملة في تعامله مع الآخرين وفي تعامل الآخرين معه. وكذا أن يَحذَر نفسَه والنّاسَ دون أن يغادرهم، ويجتهد لكي لا يسلم نفسه لأحد بالكلّيّة، أعمًى، لأنّ الجميع أخطأوا! الخلاص بالإنسان باطل، وليس أحدٌ صالحًا! “أبناء البشر باطلون. أبناء البشر دجّالون… تكوّنوا من الباطل كلّهم أجمعون…” (المزمور 61). كلّ نفسٍ أمّارة بالسّوء! نفسي شقيّة وكلّ نفسٍ شقيّة! على هذا يعين أحدنا الآخر في المسيح ويستعين كلٌّ، أحدنا بالآخر، ولكنْ، فقط في المسيح، وبحرص وانتباه كبير حتّى لا نؤلِّه أحدًا ولا يؤلِّهنا أحدٌ! العزّة لله وحده، تمجّد ٱسمه!

يتبع

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share