تحتفل الكنيسة، اليوم، في الثامن من شهر أيلول، بعيد ميلاد سيّدتنا مريم والدة الإله، وغدًا، التاسع من أيلول، بعيد والدَيها القدّيسين يواكيم وحنّة. وترقى الروايات التي تخبّر عن هذا الحدث إلى القرن الأوّل للمسيحيّة. صحيح أنّ الأناجيل لم تروِ شيئًا عن هذا الموضوع، غير أنّ ثمّة أناجيل منحولة، أي تلك الأناجيل التي لم تعترف الكنيسة بشرعيّتها، تتحدّث عن ولادة مريم وطفولتها. وإنْ كانت هذه الأناجيل المنحولة غير قانونيّة، فبعض الروايات الواردة فيها يمكن اعتبارها مراجع تاريخيّة صحيحة، كما تعتقد الكنيسة أنّ بعض الروايات صالحة للتعليم.
ومن ضمن الروايات التي اعتمدتها الكنيسة في تعليمها وفي عباداتها روايات ميلاد مريم ودخولها إلى الهيكل (عيد دخول السيّدة في ٢١ تشرين الثاني). المرجع الأساسيّ في مقالتنا هو “إنجيل يعقوب التمهيديّ” الذي دُوّن حوالى العام ١٥٠، ويؤكّد وجوده بعض آباء الكنيسة. يقدّم المؤلّف نفسه بصفته أخا يسوع من زواج أوّل ليوسّف. غير أنّنا سنستعمل أناجيل أخرى لنصوغ رواية واحدة متكاملة، لذلك لن نشير إلى المصادر في متن المقالة.
كان يواكيم رجلاً غنيًّا جدًّا، من سبط يهوذا، “يخاف الله في بساطة قلبه واستقامته”. وكان يقسّم منتوجات قطعانه وأرزاقه وكلّ الأشياء التي يملكها إلى ثلاث حصص، “فيعطي واحدة للأرامل واليتامى، والثانية للمنذورين لخدمة الله، ويحتفظ بالثالثة لنفسه وكلّ بيته”. وكان يقول في قلبه: “لتكن خيراتي للشعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدن الله، ليشفق الربّ عليّ”. وعندما بلغ العشرين من عمره اتّخذ زوجةً له حنّة ابنة آشار التي كانت من قبيلته ذاتها، من قبيلة يهوذا، من نسل داود. وبعدما سكن عشرين عامًا معها لم يرزق منها أولادًا. وقد نذر، هو وزوجته حنّة، إذا رزقهما الله ولدًا، أن يكرّساه لخدمة الربّ، وعلى ذلك النذر اعتادا في كلّ عيد من العام التوجّه إلى هيكل الربّ.
وحدث أنّ يواكيم صعد إلى أورشليم، لمناسبة أحد الأعياد. وعندما لمح رئيس الكهنة حاملاً تقدمته للهيكل أبعده واحتقر هباته، سائلاً إيّاه كيف له الجسارة، وهو عاقر، على الظهور أمام مَن ليسوا كذلك، وقائلاً إنّ هباته لا يمكن أن تكون مرضيّة عند الله، طالما أنّ الله قضى بأنّه غير جدير بأن يُرزق أولادًا. فاعتزل يواكيم إلى جوار الرعاة الذين كانوا مع قطعانه في مراعيه، يملأه الارتباك بسبب هذا التجريح المُهين، لأنّه لم يُرد العودة إلى بيته خوفًا من أن يُذلّه أفراد قبيلته الذين كانوا معه بالتجريح ذاته الذي سمعه من رئيس الكهنة.
استولى على يواكيم وحنّة حزن عظيم، لهذا لم يشأ يواكيم أن يظهر أمام امرأته فمضى إلى الصحراء ونصب فيها خيمته، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، قائلاً في قلبه: “لن أتناول طعامًا ولا شرابًا، وصلاتي ستكون طعامي الوحيد”. وخلال خمسة أشهر لم تتلقَّ حنّة خبرًا عن زوجها، وكانت تبكي في صلواتها: “أيّها الربّ الكلّيّ القدرة، يا إله إسرائيل، لـمَ لم ترزُقني ولدًا، ولـمَ انتزعت زوجي منّي؟”. وفيما هي تصلّي رافعة عينيها إلى الله، رأت عشّ دوري، فأطلقت نواحًا عميقًا وقالت: “أيّها الربّ الإله الكلّيّ القدرة، أنت الذي أَعطيت المخلوقات كلّها نسلاً، البهائم والحيّات، الأسماك والطيور… أَحمدك، لأنّك شئت أن أكون وحدي مستثناة من أفضال جودك. وأنت تعرف يا ربّي، سرّ قلبي، لقد نذرتُ، منذ بدء رحلتي، أنّك لو رزقتني ابنًا أو ابنةً لكنتُ كرّسته لك في هيكلك المقدّس”.
استجاب الربّ صلوات يواكيم وحنّة، فأَرسل الملاك ليبشّرهما كلاهما على حدة. وعندما ظهر الملاك على يواكيم بادئًا بخطأ الاعتقاد اليهوديّ بأنّ العاقر هو ملعون من الله، توجّه بالكلام إلى يواكيم قائلاً: “إنّ الله يعاقب الخطيئة لا الطبيعة”، وبشّره بأنّ الله قد استجاب صلواته، وبأنّه سمع التجريح بالعُقم الذي وُجّه إليه، لذلك “ستلد امرأتك حنّة ابنةً، وستُسمّيها مريم، وستكرّسها للربّ منذ طفولتها، كما نذرت ذلك، وستكون مملوءة بالروح القدس، حتّى من أحشاء أمّها”. ثمّ ذهب الملاك إلى عند حنّة وبشّرها قائلاً: “أنا مرسل إليك لأبشّر بولادة ابنة لك، ستُدعى مريم، وتكون مباركة بين كلّ النساء. وستكون ممتلئة بنعمة الربّ بعد ولادتها على الفور”.
عاد يواكيم من الصحراء، وكانت حنّة تنتظره عند باب منزلها، فلمحت يواكيم آتيًا مع قطعانه، “فركضت وارتمت على عنقه”، قائلةً: “أعرف الآن أنّ الربّ إلهي باركني، لأنّي كنتُ أرملة (بسبب اختفاء يواكيم في الصحراء) ولم أعد كذلك، وكنت عاقرًا وحبلتُ”. وفي الغد، ذهب يواكيم إلى الهيكل، وقدّم قرابينه قائلاً: “أَعلمُ الآن أنّ الربّ استجابني وغفر لي كلّ خطاياي”. فحبلت حنّة، وفي الشهر التاسع ولدت، فسألت قابلتها: “ماذا ولدتُ؟”، فأجابت القابلة: “بنتًا”. فقالت حنّة: “نفسي ابتهجت هذه الساعة”. وأرضعت حنّة طفلتها وأَسمتها مريم.