السّفينة في مهبّ الرّيح!

mjoa Thursday September 19, 2013 191

… وأراد التّلاميذ الانتقال، في السّفينة، عبر بحر الجليل، إلى موضع آخر. المؤمنون في حركة. يعبرون. “ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية” (عبرانيّين 13: 14). وفي عبورهم، لهم، في العالم، تقلّباتهم. ساعة يكونون في عسْر وساعة في يسْر. في كلّ حال، لا سلام حقيقيًّا يكون لهم، ههنا! و”لكم في العالم ضيق”!

حَسبُهم أن يلتقطوا أنفاسهم! ليس نافعًا لهم أن يكونوا، ههنا، في الرّاحة، طويلاً، وإلاّ يتراخون ويفسدون! الموافقُ لهم أن يكونوا مشدودين أبدًا! كرحّالة، كعابرين، كجنود في حرب. وحربهم لامنظورة. قِبلتُهم الملكوت. “وجهك يا ربّ أنا ألتمس”. ولكنْ ليس الملكوت هناك. لا الملكوت زمان ولا مكان. الملكوت روح. فيه نكون في مدار ليس من هذا العالم. الرّوح فينا يشدّنا، أبدًا، إليه. الحركة حركة روح، حركة قلب، حركة حبّ! الكيان فيه إليه! هذه سنّة الألوهة. لذا الله محبّة. الآب والابن والرّوح القدس، كلٌّ في الآخر وإليه. استقرار الكيان في عبوره إلى الكيان! لجّة تنادي لجّة! هذا مضمون “وجهك يا ربّ أنا ألتمس”!

     ليس الهمّ ما نعبر به، بل مَن نعبر إليه في كلّ حين وحال! “لا موت ولا حياة… لا أمور حاضرة ولا مستقبلة… تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله الّتي في المسيح يسوع ربّنا” (رومية 8: 38 – 39)! هنا، لا يمكننا، مهما فعلنا، أن نثبت على حال! بحر متموِّج! تارة في سكون وتارة في هياج! تارة نسيم عليل وتارة رياح عاصفة! تارة هدهدة مؤنِسة وتارة أمواج عاتية! تارة نشقّ العباب في يسر وسلام، وتارة تهوي سفينتُنا وتكاد تتحطّم! لا ضمان من النّاس، مهما اشتدّ أزرهم! ريشة نحن في مهبّ الرّيح، كبارًا وصغارًا، أغنياء وفقراء، حكماء وأغبياء! مساهمتنا أقل، دائمًا، ممّا نحن بحاجة إليه! “إن لم يبنِ الرّبّ البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون. إن لم يحرس الرّبّ المدينة فباطلاً يسهر الحارسون”! تراب ورماد! كُتَلٌ طينيّة! بدوني لا تستطيعون شيئًا! طوبى لامرء عرف حدّه ووقف عنده!

     كأنّهم متروكون وليسوا بمتروكين! معلِّمهم على ظهر السّفينة. يقولون: “نائمًا”! لا لأنّه تعب ويحتاج لأن يتوقّف عن العمل. أبي إلى الآن يعمل وأنا أعمل! ذاك نوم تدبيريّ! غياب تكتيكيّ! حتّى لا ينام أحدٌ عن إتمام عمل الله. “اسهروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة” (متّى 26: 41). التّجربة نكابدها متى سهونا، تغافلنا، تبالدنا. “ولا تدخلنا في تجربة” قول نسأل به الله العون على قصورنا. قصورنا لا يعني تلهّينا عن الله. بل أن نبذل قصارى جهدنا! رغم ذلك، أو، بالأحرى، بالإضافة إلى ذلك، نحتاج إلى عون الله، لأن ما نبذله، مهما كان، لا يكفي!

إذا لم يضع السّيِّد حدًّا لهمومنا، فإنّه يعيننا، حتمًا، على حملها، على مواجهتها، فلا نخور ولا يفنى إيماننا! المهمّ أن تكون قلوبنا إليه، ما يبعث الرّجاء فينا، والرّجاء بالله لا يُخزي! لا يشاء الرّبّ الإله أن يعمل عنّا، بل معنا! “أين كنتَ؟ سأل القدّيسُ أنطونيوس الكبير اللهَ، بعدما صارع حتّى الدّم في العاصفة”! أجابه العليّ: “كنتُ، هنا، أُعاين جهادك، وأبارك”! كأنّما الرّبّ يتخلّى عنّا وما يتخلّى، لنجاهد: في الصّلاة، في الصّبر، في الانتظار، على الرّجاء! متى اشتدّت حِلكةُ اللّيل كان الفجر على وشك أن ينبلج! حتّى يقوى ساعدُنا! كونوا رجالاً وتقوّوا! “كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطّربين محمولين بكلّ ريح…” (أفسس 4: 14) كلّ هذا الّذي نبذله، بشقّ النّفس، لنحقِّقه، الله قادر أن يعطينا إيّاه في لحظة، لكنّه يفرح بتعبنا وثباتنا على الرّجاء، في ضعفنا، إلى أن يجيء ويُكملَنا بقوّته! كلّما كبُر أحدنا في الجهاد والبذل كلّما نما في النّعمة والقامة!

     في هذا المسار، كثيرًا ما نلقانا على شفير الهاوية، على حافة الانهيار، وما ننهار! نكاد نفقد الرّجاء مرارًا ونيأس، كالقدّيس سلوان الآثوسيّ، ولا نيأس! ما إن قال في قلبه: الله ظالم قاس! حتّى عاين السّيّد حنّانًا يذوب حلاوة، فارتاع وسمع صوتًا يقول له: اجعل ذهنك في الجحيم ولا تيأس! هذا كان أعظم وأرقى ما تلقّنه في حياته! الأحمال تثقل لمَن يشاء السّيّد أن يُفعمه أنعامًا! “بصبركم تقتنون نفوسكم”! لا يحمِّلنا حجارة صمّاء ننوء تحتها بل يحمِّلنا أنفسنا وحجارة حيّة، النّاسَ، حتّى نكبر في الرّوح، بالنّعمة والمحبّة والصّبر والاتّضاع!

     “حيٌّ هو الله الّذي أنا واقف أمامه”، قال إيليا النّبيّ، فيما قال الجاهل في قلبه: “لا خلاص له بإلهه”! كلّ شيء من حولنا، هنا، يهمس في آذاننا: لا خلاص له بإلهه! صمتُ الله لا يعني أنّه غير موجود! وكونُه غيرَ منظور لا يعني، أبدًا، أنّه غير فاعل! “انتظرتُ الرّبّ بصبر فأصغى إليّ واستمع إلى تضرّعي، وأصعَدني من وهدة الشّقاء… وسدّد خطواتي” (مزمور 39: 1 – 2)! يأتيك ربّك متى استنفدتَ قواك حتّى يترسّخ إيمانُك وتُثمِّن رعايته لك! مَن تَعِب قليلاً كانت عناية ربّه، به، قليلة! ومَن تعب جزيلاً، كانت بركة ربِّه عليه جزيلة! الكلام، دائمًا، أيسر. ولكنْ، هكذا الخلاص، يبدأ كلمةً، ثمّ يستحيل دمًا مهراقًا، صليبًا، ليكتمل كلمة حيّة، روحًا! أعطِ دمًا وخُذ روحًا!

     تعصف الرّياح، هذه الأيّام، في الدّاخل ومن الخارج، فأين العَجَب؟! مَن قام قبل أن يموت أوّلاً؟! لقد ذهبوا وهم يبكون إذ كانوا يلقون بذارهم، لكنّهم سيرجعون فرحين حاملين أغمارهم! مطروحين، أبدًا، في عواصف هذا الدّهر، كنّا وكائنين ونبقى، حتّى ذلك اليوم، لكنّنا غير هالكين. مضطَهَدين، ولكنْ غير متروكين. متحيِّرين، ولكنْ غير يائسين. مكتئبين، ولكنْ غير متضايقين. حاملين في الجسد كلّ حين إماتة الرّبّ يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا (2 كورنثوس 4)! لا يغادرنا!

أثمن من بؤبؤ العين لديه نحن! لا تخافوا! لست أترككم يتامى! شعرة من رؤوسكم لا تسقط إلاّ بإذن أبيكم السّماويّ! الّذي فيكم أقوى من الّذي في العالم! لا يحمِّلنا أكثر من وسعنا! وفي التّجربة يرسل نعمة فوق نعمة حتّى لا تطيحنا التّجربة! أقوى هو فينا من العالم إن قام علينا! هذا بحاجة إلى شيء من طفولة القلب، من سلامة النّفس، من نقاوة الطّويّة، حتّى يتفعّل فينا. فقط الّذين ينصرفون عن ربّهم، لا أقول ينصرف ربّهم عنهم، بل يحولون دون سريان نعمته فيهم. الله لا يُعاقب ولا يُقابل الإعراض بإعراض مثله. يمدّ مسيحُ الرّبّ نفسَه إلينا لينفعنا أبدًا. مبذول، باذلٌ نفسَه؛ فإن اعتزل أحدٌ بنفسه كان هذا منه لا مِن تخلّي مَن أخلى نفسَه عنه وعن البشريّة، آخذًا صورة عبد! يذهبون إلى بلاد بعيدة ظانّين أنّ لهم فيما يفعلونه خيرًا لنفوسهم، إلى أن تنحطّ أمورهم إلى دَرَك الخنازير، فيما ربّهم في الانتظار، يرصد ريح/رائحة الأحبّة الّذين غادروه وما غادرهم، والدّمعة في غصّة عينه! “ابهتي أيّتها السّماوات من هذا، واقشعرّي وتحيَّري جدًّا، يقول الرّبّ، لأنّ شعبي عمل شرَّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة، لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشقّقة لا تضبط ماء” (إرمياء 2: 12 – 13)!

     هذا زمن الغربلة، إذًا هذا زمن التّنقية! هذا أوان الشّدّة، إذًا هذا أوان النّعمة! هذا أوان الافتقاد، إذًا هذا أوان الرّضا! فيما تصمّ أصوات الحرب الآذان هلعًا، ويسعى الأثيم لأن يأخذ الصّغار بالضّجيج والتّهويل، تنسلّ إليهم خيوط الضّوء، نعمةً، من فوق، تخترق الحُجبَ، بصمت، في غفلة عن الّذين لا يعلمون، لتقوِّم الأيادي المسترخية والرُّكب المخلّعة (عبرانيّين 12: 12)، فلا يبيد الرّجاء فيهم!

     فيما يمدّون جسد مسيح الرّبّ على الصّليب مِضغة لأهوائهم، وينحرونه ممدودًا في خرافه، يمدّ ملائكة الرّبّ المائدة السّماويّة لمَن شهدوا، إلى المنتهى، لمسيحهم، واستقووا به وهم الملقَون، في الوحشة، بين الوحوش، وعزّاهم المعزّي الصّالح!

     حتّى متى؟! تأدّبي يا أورشليم لئلاّ تجفوك نفسي. لئلاّ أجعلك خرابًا، أرضًا غير مسكونة” (إرمياء 6: 8)! خواء! “أيّها الرّبّ يسوع تعال”! نفوسنا كلَّتْ! فقام وانتهر الرّيح وقال للبحر: اسكت، ابكم! فصار هدوء عظيم!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share