يعتقد الكثير من الأرثوذكسيين بأنّه لا وجود في كنيستنا لسرِّ التَّوبة والإعتراف. هذا يعود إلى أنَّ هذا السرّ ليست ممارسته مألوفة في الرَّعايا، بشكل عامّ. كذلك، يحتاج الإنسان إلى جُرأة ليُقِرَّ بأنّه خاطِى أمام شخص آخَر. يوجد أسباب أُخرى تجعل هذا السرَّ مجهولًا في كنيستنا ومنها عدم التَّركيز الرِّعائيّ على أهمِّيّته، وﭐعتبار البعض بأنّه طالما أنّ الكاهن أيضًا يُخطئ فلماذا يعترفون أمامه، إذ هو ليس أفضل منهم.
ما هي التَّوبة؟ التَّوبة (meta,noia) هي تغيير للذِّهن والفكر يستتبعه تغيير في السُّلوك والحياة. والتّوبة تأتي من إدراك الإنسان لخطيئته، أي لإساءته لذاته، لله وللآخَر. هذا يستتبع ندمًا ووجعًا في القلب، ينتج عنه تخشُّع واتِّضاع -عند الصَّادِق مع ذاته- ممَّا يولِّد في الإنسان طاقة إيجابيّة وقوَّة ناتِجَة عن القرف من الخطيئة وكرهها، فيمتدُّ الإنسان من هناك نحو الرَّغبة بتغيير واقعه التَّعيس المُسِيء لإنسانيّته كونه يصير غريبًا عن حقيقته الوجوديَّة.
الإنسان الحقّ هو كائن في تواصُلٍ مع الآخَر. والآخَر بالمُطلق هو الله. من هنا لا يستطيع الإنسان أن يكون إنسانًا ما لم يتواصل مع الله ومع الإنسان الآخَر. وأساس الصِّلة بين هؤلاء الثَّلاثة هو المحبَّة، كونها جوهر الإنسان لأنّ الإنسان على صورة الله قد خُلِق.
من هنا فالتَّوبة هي، بالحقيقة، سرّ المصالَحَة: مصالحة الإنسان مع ذاته، مع الله ومع الآخَر. كلّ خطيئة هي خللٌ في المحبّة الَّتي تجمع هؤلاء الثَّلاثة. وكلّ توبة هي مصالحة بين هؤلاء الثَّلاثة. لذا، التَّوبة تستتبِع الإعتراف.
* * *
الإعتراف الأوَّل، هو أن يُقِرَّ الإنسان في ذاته وتجاه نفسه بأنّه أساء إلى إنسانيّته، كونه بالخطيئة عرَّض نفسه لخسارة وجوده الحقّ إذ سَلَكَ في الأنانيّة. الإعتراف الثَّاني، هو أن يُقِرَّ الإنسان لله بأنّه أساء إلى محبّته له، خانَهُ، لأنّه ﭐنقادَ إلى مشورة الموت، إذ كلّ حَيَدَانٍ عن الوصيّة الإلهيّة هو دخول في طريق الموت. الإعتراف الثَّالث، هو أن يُقرِّ الإنسان بِشَقِّهِ رباط المحبَّة مع إخوته في جسد المسيح، كونه سَبَّبَ خَلَلًا في الجسد، إذ أَدْخَلَ المرضَ إليه كونه عضو فيه. وكلّ ﭐعتراف يستوجب طَلَبَ مصالَحَة لتستقيم العلاقة في المحبّة والبِرّ للوصول إلى الوحدة في الرَّبّ.
* * *
خطيئة الإنسان تُسِبِّبُ له ﭐضطِّرابًا وتشوُّشًا وﭐنقِسامًا في حياته كلّها، وهذا ما يجعله بحاجة إلى طبيب، إلى صديق، إلى إنسان ثقة وحكمة يستطيع أن يَتَّكِلَ عليه في طلب الدَّواء والمشورة والنُّصح للخروج من ضيقته وأوجاع نفسه وروحه. كلّ إنسان متألِّمٌ طالما هو في هذا العالم، لأنَّ كلّ إنسان يخطئ. من هنا، كان سرّ التّوبة والإعتراف، سرّ المُصالحة مع النَّفس والله والقريب بواسطة المسيح الفاعِل في الكاهِن خادم السّرّ.
من سَلَكَ في المُصالَحَة ارتاح قلبه وشُفِيَت نفسه وﭐسْتَنَارَتْ روحُه بنعمةِ إلهنا “الصَّالِح والمحبّ البشر”.
فهل من يرغب بالمصالَحة؟!…