ذهبيّ الفم، ذهبيّ القلب

mjoa Wednesday November 13, 2013 116

القديس يوحنا الذهبي الفم (+407)، الذي عيده اليوم، هو أكبر واعظ شهدته الكنيسة عبر تاريخها، ولذلك لقّب بـ”الذهبي الفم”. وُلد وترعرع في أنطاكية السورية على نهر العاصي، وبرع في دروسه، ومن الراجح أنه أخذها عن ليبانيوس، أعظم أساتذة البلاغة في عصره. صار بطريركاً على القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية، فلم يتوانَ عن التنديد بإسراف الأغنياء وبذخهم، وبفساد الأساقفة الذين يحابون الإمبراطور على حساب قول الحق والشهادة للمسيح.

غير أننا نستطيع أن نضيف إلى شخصية يوحنا لقب “الذهبيّ القلب”. فهو قد أدرك أن المسيحية تقوم على التناغم ما بين أمرين يكمل أحدهما الآخر، وهما العقل والقلب، أو بتعبير آخر تقوم على الانسجام ما بين المعرفة والسلوك اليومي بما فيه العبادة. ومن هنا قوله: “إليكم معنى محبّتنا للمسيح التي تقتضي أن نفعل كلّ شيء حباً لله”.

لم تبقَ عظات يوحنا في المستوى البلاغي والجمالي، بل رفعها إلى المستوى الحياتي. شهرة يوحنا لم تقتصر على الوعظ، بل مارس على أرض الواقع ما كان يتفوّه به لسانه الذهبي. هو لم يُسكره جمال لغته وأسلوبه الخطابيّ، بل بقي واعياً أنه مسؤول عن عيش ما يعظ به شعبه ورعيّته. فالوعظ بالممارسة أهمّ بما لا يقاس من مجرّد الوعظ بالكلام. الناس تصدّق الأفعال أكثر ممّا تأمن للأقوال.

أيقن يوحنا أن الطريقة الفضلى للبشارة في عصره، حيث يتجاور المسيحيون والوثنيون، هي البشارة بالممارسة، لا بالعجائب والمعجزات والأقوال، فهو يقول: “حين لم يكن الإنجيل منتشراً، كانت المعجزات تثير الإعجاب وبحقّ. أما الآن، فلا بدّ من الإعجاب بالحياة”. وفي هذا السياق يقول أيضاً: “لم نُعطَ الكتابات المقدّسة لكي نبقيها في الكتب، بل لكي نحفرها، بالقراءة والتأمّل، في قلوبنا. الناموس يجب أن يُكتب على ألواح من لحم، على قلوبنا”.

كان يوحنا خير قدوة للناس، ولا سيما في تنفيذ وصيّة المحبة، وصيّة المسيح الوحيدة لتلاميذه. فكان محباً للفقراء، ليس بالأقوال بل بالأفعال أيضاً، فسيرته تفيدنا أنّه باع أملاك البطريركية ووزّعها على الفقراء. وقد ورد في إحدى عظاته: “مهما صُمتَ، ومهما اضطجعتَ على الحضيض، ومهما طعمتَ الرماد وذرفتَ الدموع، فإنك لا تكون قد قمتَ بشيء إذا لم تكن نافعاً للغير”.

لم يتواصل يوحنا مع المسيح بالصلاة والصوم والعبادات فحسب، بل وجده في كل إنسان فقير ومعوز. لم يبحث عن المسيح في السموات وعليائها، بل وجده في أكواخ المهمّشين في القسطنطينية حيث يتجاور الغنى الفاحش مع الفقر المدقع. المسيح ما زال حياً في كلّ إنسان محتاج إلى محبة أخيه الإنسان، بل كلّ إنسان محتاج هو المسيح نفسه.

يبدو يوحنا كأنّه يخاطبنا، نحن أبناء هذه البلاد العاصية، حين قال: “ليكن لديكم غرفة يأتي المسيح يسكن فيها. وليكلَّف أوفى الخدّام أن يُدخل إليها ذوي العاهات والشحّاذين والذين لا سقف لهم… ولا بدّ من استقبالهم في العلّيّات. وإذا لم تقبلوا ذلك، فاستقبلوهم في الأسفل على الأقل. أجل. حيث تكون البغال ويكون الخدّام، استقبلوا المسيح”.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share