سلالة الشّهداء!

mjoa Monday November 18, 2013 106

يا إخوة، إذ تجسّد ابن الله، وأقام بين النّاس، لم يُعطِهم أن يكونوا في الرّاحة؛ بل أعطاهم، في هذا الدّهر، أن يكونوا في التّعب. لم يُعطهم أن يكونوا في العزّة، في هذا الدّهر؛ بل قدّم إليهم الصّليب! “مَن أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، كلّ يوم، ويأتِ ورائي”، لذلك “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات”. من يبحث عن الرّاحة، في هذا العالم، فلا يمكنه أن يؤمن بالرّبّ يسوع؛ وكذلك من يبحث عن العزّة، والمجد، والسّلطة، والمال، والمتع.

     نحن، يا إخوة، قطيع خراف، مُلقَون في وسط عالم من الذّئاب. المنطق الّذي نسير فيه هو في اتّجاه مخالف للمنطق الّذي يسير فيه هذا العالم. لذلك، نحن نُعتبَر جُهّالاً، بالنّسبة إلى هذا العالم! حكمتنا غير مقبولة، في هذا الدّهر. لهذا السّبب، ما لاقاه سيّدنا لا يمكننا إلاّ أن نلقاه نحن، أيضًا، إذ ليس تلميذ أفضل من معلّمه. التّجربة الكبرى الّتي نواجهها، في هذا العالم، هي تجربة المساومة، تجربة التّلفيق. والمساومة معناها أن نتنازل، قليلاً أو كثيرًا، عن الحقّ اتّقاءً لشرّ العالم حيالنا، وطلبًا لبعض الامتيازات في هذا الدّهر؛ والتّلفيق معناه أن نزاوج ما بين الحقّ والباطل، ما بين الحكمة الإلهيّة والحكمة البشريّة، ما بين الفقر بحسب الله والغنى بحسب هذا الدّهر. المساومة والتّلفيق هما التّجربتان اللّتان يتعرّض لهما كلّ مؤمن ما دام موجودًا في هذا العالم. الشّرّير يضغطنا، وكذلك العالم يضغطنا، أقاربنا يضغطوننا، الأبعدون يضغطوننا أيضًا. حتّى ضمن الكنيسة، بين المسمّين مؤمنين، يُعتبَر التّلفيق والمساومة حكمة، ودراية، وديبلوماسيّة، ورعاية! ومَن يتمسّك بالأمانة، كاملةً، لله يُعتَبَر، حتّى بالنّسبة إلى أهل بيته، إنسانًا متعنّتًا، إنسانًا زمّيتًا، إنسانًا معقَّدًا، إنسانًا أصوليًّا. هذا كان صحيحًا في كلّ جيل؛ وهو صحيح، بصورة خاصّة، اليوم. اليوم، الجنون يضرب أكثر الّذين يُحسَبون على الإيمان، حتّى لا نتكلّم على الّذين هم خارج حظيرة الكنيسة. النّاس، في كنيسة المسيح، أكثرهم يرتدّ عن الأمانة لله باسم الله؛ وطبعًا، تحت ستار الحداثة، والفكر، وحسن الرّعاية. لكن، في العمق، أكثر النّاس، المحسوبين على المسيح، لم تعد علاقتهم بمسيحهم، بربّهم علاقةً بالرّوح والحقّ! الأكثرون علاقتهم بالله هي في الشّكل؛ والمضمون مُسَيَّب، متروك لأهواء النّاس، لاستنساب النّاس، كأنّ الكنيسة، إلى حدّ بعيد، لم تعد كنيسة واحدة، بل أصبحت هناك كنائس على عدد النّاس. كلّ واحد يطوّر كنيسته الخاصّة على طريقته: يأخذ قليلاً من هنا وقليلاً من هناك، ويسكب ما طاب له من بنات فكره ومن أهواء نفسه، ويقبل وصيّة ويتغاضى عن الأخرى، ويقبل ممارسة ويتغاضى عن سواها… هكذا، كلّ إنسان تلقاه وكأنّه يبتدع كنيسة خاصّة به؛ والسّبب العميق لهذا التّشرذم، لهذا الضّياع، لهذا الجنون، هو أنّ قلّة عزيزة ما زالت مستعدّة لأن تحمل صليب المسيح، وتتبعه إلى المنتهى. أكثر النّاس ينزلون عن الصّليب، ويستعيضون عنه بالتّزيّن به، بالتّجمّل به، باستعمال الصّليب للفأل الحسن، لحماية أنفسهم من سوء الطّالع، ومن الأرواح الخبيثة، ومن الأمراض، ومن الكوارث… لكنّ الكنيسة بشهدائها! لا كنيسة إلاّ بالشّهداء. هذا الإنجيل، الّذي قُرئ عليكم، هو إنجيل يُقرأ في عيد الشّهداء؛ ومن ثمّ، هذا الكلام موجَّه إلى كلّ مَن لا يزال مجنونًا، بما فيه الكفاية، ليحمل صليب المسيح، ويسير في إثر شهداء المسيح.

     “احترزوا من النّاس، فإنّهم يُلقون أيديهم عليكم، ويضطهدونكم، ويسلمونكم إلى المجامع والسّجون، وتُقادون إلى الملوك والولاة لأجل اسمي؛ فيؤول ذلك لكم شهادةً… ستُسلَمون من الوالدين والإخوة والأقارب والأصدقاء، ويقتلون منكم”. يقتلوننا في الجسد، أو لا يقتلوننا، ليس هذا هو الهمّ الأكبر. الهمّ الأكبر أنّهم يقتلوننا معنويًّا، يُلغوننا، يضطهدوننا، يضغطوننا بكلّ الطّرق لكي نسير سيرتهم، ونقتبل حكمتهم! “وتكونون مُبغَضين من الكلّ، [من الكلّ من دون استثناء] من أجل اسمي”. كأنّه يقول، بكلام آخر، إنّ الكنيسة تكون في وضع النّهضة، عندما يكون المؤمنون فيها عرضةً للاضطهاد والتّضييق ويثبتون في الأمانة إلى المنتهى. مَن لا يكون مستعدًّا لأن يحمل صليب المسيح، فلا يمكنه، أبدًا، أن يحمل صليب الآخرين! لا يمكنه أن يكون مستعدًّا لأن يحمل صليب المحبّة، صليب الرّأفة، صليب التّعاون، صليب التّضحية! لذلك، من دون صليب، يدخل الإنسان، لا محالة، في تكاذبٍ في العلاقة مع النّاس، يتكلّم كلامًا أجوف! الكلام يسير في اتّجاه، والأفعال تسير في اتّجاه آخر! ولأنّ الأكثرين لا يحبّون الحقّ، يعطيهم الرّبّ الإله أن يصدّقوا الكذب وكأنّه حقّ. كثيرون، اليوم – وأتكلّم على مَن هم في كنيسة المسيح، لا على مَن هم خارجها – يصدّقون الكذب؛ لأنّهم لا يحبّون الحقّ، وليسوا مستعدّين لأن يضحّوا من أجل حفظهم للحقّ، من أجل سلوكهم في الحقّ، من أجل الأمانة للحقّ. لذلك، يخترعون الأكاذيب، ويصدّقون الأكاذيب، ويتداولون الأكاذيب فيما بينهم، ويؤكّدون أنّ هذه هي الحقيقة!

     لهذا السّبب، يا إخوة، علينا أن نحذر لئلاّ نقع في هذه الحفرة، في هذه الهاوية. على كلّ واحد منّا أن يكون صاحيًا، في كلّ وقت، لكي لا يدخل في عمل المساومة، في عمل التّلفيق؛ لكي لا يتخلّى عن صليب المسيح. طبعًا، اليوم أكثر ربّما من الكثير من الأوقات الماضية، لا بدّ لنا من أن نكابد الضّيق. الصّمت، إذ ذاك، يصبح ثقيلاً؛ لأنّ الإنسان، إذا ما أراد أن يتمسّك بالأمانة لله في وسط مَن ليسوا مستعدّين لأن يسمعوا كلمة الحقّ، يجد نفسه ملزَمًا بحفظ الصّمت! لماذا يتكلّم؟! يتكلّم الإنسان، حين يكون هناك مَن هو مستعدّ لأن يسمع. أمّا إذا لم يكن هناك مَن هو مستعدّ لأن يسمع، فالسّالك في الأمانة لله يصمت! ربّما ينتظر فرصةً مؤاتية لكي يتكلّم. في كلّ حال، يعتصم بالصّلاة، يلتزم الصّبر، يسلك في الاتّضاع. مهما قالوا عنه، لا همّ! همّه الأوّل والأخير أن يرضي الله، أن يسلك بحسب الضّمير. هذه هي الشّهادة الحقّ، وهذه هي الشّهادة على أصعب ما تكون الشّهادة! الّذين يُقتَلون بالجسد يُقتَلون مرّة واحدة. أمّا الّذين يُضطَهدون لأنّهم يتمسّكون بالأمانة لله، فيموتون كلّ يوم، لكنّ الرّبّ الإله يحييهم كلّ يوم، يعطيهم روح التّعزية، يشدّدهم، يقوّيهم! قد يبدو أنّهم ضعفاء، لكنّ قوّة الله تكون ساكنة فيهم. قد يبدو كأنّ الله قد تخلّى عنهم، والله يكون حافظَهم بملاك حارس من عنده، ليلاً ونهارًا. لا بدّ لنا، يا إخوة، من أن نحفظ الأمانة لله، حتّى تستمرّ سلالة الشّهداء فينا، وفي الّذين يأتون من بعدنا. في الكنيسة، هناك شهداء أو لا شيء. الشّهادة تأتي من هذه الأمانة، من هذا الصّليب. هكذا حُفظت الكنيسة إلى اليوم، وهكذا تبقى محفوظة إلى قيام السّاعة.

 

آمين

 

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
17 تشرين الثّاني 2013
(عظة أُلقيت في 2 تشرين الثّاني 2013)

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share