الإنسان الأبهى من الكنائس والمساجد

mjoa Wednesday November 20, 2013 118

أوصى الرسول بولس أهل روميّة، عظمى مدن ذلك الزمن الغابر، أن يعكفوا على “ضيافة الغرباء”. وقصده من ذلك ضيافة الفقراء الذين يجدون أنفسهم مرميّين في شوارع مدينة تتعالى عليهم وتنبذهم بكبريائها الباردة كرخامها ومرمرها.

ويؤكّد بولس في خطابه إلى أهل رومية العظمى أن خلاصة الشريعة كلها كامنة في تحقيق الوصية بـ”محبّة القريب”، فهو يذكّرهم بـ”أن الوصايا كلها متضمَّنة في هذه الكلمة أن أحببْ قريبك كنفسك. إن المحبة لا تصنع شراً بالقريب، فالمحبة إذاً هي الناموس بتمامه” (13، 8-10).

لكن مَن هو القريب الواجبة محبّته؟ يؤكّد السيد المسيح، في مثل السامري الصالح، أن القرابة ليست هي القائمة على الانتماءات العائلية أو القومية أو الطائفية، أو على أي عصبية أخرى، بل هي القرابة التي تنشأ في ظرف معيّن عندما يلتقي المرء بمَن يحتاج إلى مدّ يد العون إليه. القرابة، إذاًً، في هذا المقام، ليست “قرابة اللحم والدم”. القرابة صيرورة تحكمها “الرحمة”. كلّ عابر سبيل، أو نازح، أو مهجّر، أو مستضعف في الأرض يصبح هو القريب.

ليس لنا أن “نرضي أنفسنا”، يقول بولس نفسه لأهل رومية العظمى، بل “فليرضِ كل واحد منّا قريبه للخير، لأجل البنيان”. يبقى إرضاؤنا لله بلا معنى وبلا جدوى إن لم نرضِ القريب، وبخاصة ذلك الغريب “الذي وقع بين أيدي اللصوص”، بل بين أيدي الطغاة والقتلة والسفّاحين. الصلاة والصوم وكلّ عبادة، إذاً، تصبح باطلة إنْ لم يكن هدفها خدمة الإنسان واحتضانه في أزمنة الشدّة والضيق.

ويسعنا أن نقول أيضاً إنّ الإنسان هو المكان الذي يفضّل الله أن يُعبد فيه. فالإنسان الساكن الله فيه هو أبهى من الهياكل والكنائس والمساجد. أن تخدم الله هو أن تخدم الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه، فـ”إنّ روح الله ساكن فيكم”. لذلك يصبح الإنسان هو القِبلة والمحراب. يصبح الحجّ إليه بمثابة الحجّ إلى الأماكن المقدسة، إلى قبر المسيح. فالله لا يسكن في حجارة مرصوفة ولا يؤويه سقف، هو يفضّل السكن في القلوب الدافئة. “أعطني قلبك وكفى”.

يعتبر التراث المسيحي أن “السامريّ الصالح ليس سوى المسيح نفسه”. فالمسيح هو القريب الكامل الذي يخلّص العالم من قبضة الشرير. لذلك يدعونا أوريجنّس الإسكندريّ (+235)، انطلاقاً مما قاله بولس الرسول: “اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح” (1 كورنثس 4، 16)، إلى الاقتداء بالسامريّ الصالح “الذي هو صورة عن المسيح”، فيقول: “يمكننا أن نقتدي بالمسيح وأن نشفق على الذين وقعوا في أيدي اللصوص، ونذهب إليهم، ونضمّد جراحهم، ونسكب عليهم زيتاً وخمراً، ونحملهم على دوابنا، ونرفع عنهم أعباءهم”. الاقتداء بالمسيح يفيد الالتزام بالإنسان الآخر، من دون النظر في هويّته.

نحن مدعوون، إذاً، إلى أن نأخذ على عاتقنا هموم الإنسان المعاصر مع متاعبه وجراحاته ومشاكله الكثيرة، وأن نرى عوزه وقهره، ولا سيّما هموم الناس في أزمنة الحروب والتهجير. فنلتزم الاهتمام بهم ومساعدتهم إلى حين انقضاء الأزمنة الشرّيرة. فأن نحبّ الله يفترض حكمًا أن نسعى دائماً إلى تنفيذ الوصيّة الوحيدة التي أمرنا أن نهتدي بهديها: “أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم” (يوحنّا 15، 12). أن نحبّ الله يقتضي أن نحبّ الإنسان أولاً، كل إنسان.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share