كلمة تقديم المطران جورج خضر في حفل تكريمه بدعوة من مؤسسة الصفدي ونادي ليونز فكتور طرابلس

mjoa Thursday November 28, 2013 77

الدكتور جان توما
هو أسقفُ “الكلمةِ المحيي”،  الكلمةُ عندَهُ لا تُؤَنَّثُ، لأنَّها تدلُّ على ذاك الّذي منه يتنزّل النّطق عليه. جورج خضر عاين وشاهد. لمس بيديه العاريتين ذاك الجسد المصلوب، فكانت النّورانية ملجأه، والمحبة المجانية تراثه الموصول بشروش من أتى إلى هذا العالم منذ ألفي سنة ، وكان هو الكائن أبدًا.

“الكلمة” نزيله مذ كان. حامله التَعِبُ، ساكنه،عشيره إلى قيامتها في النّفوس وعاجنها إلى أن صار رغيفًا يأتيه النّاس ليشبعوا فيصرفهم إلى وجه سيد الكلمة الّذي كان منذ البدء. كانت دعوته الدّائمة أن “كُلِ الكتاب” لتصير الكتاب ،فصاره بداءة.

يعرف جورج خضر أن “الأحياء” الطرابلسية العتيقة من ” الأحياء” في باله ومسرى طفولته، ويعرف أن الشّرفات الشرقية الفيحائية العتيقة هي مطلاته إلى العروبة والمسكونية. من هذه الطرابلسية التي سلّك فيها جورج خضر طفولته مدوّنًا بعيني الطّفل براءة العروبة وجمالات الاطلالات المشرقية اليومية بين الوجه والوجه، بين اليد واليد، بين عتبة المسجد وصحن الكنيسة، آمن بأن إعادة بناء العالم المتجدّد قائمة في القلوب المنسحقة،، والرّكب الرّاكعة وصفاء الإله الواحد الأحد، وأنّ كلّ “حديث في الأحد” هو حديث “نجاوى” لا يتقنها إلا القائمون صبحًا وبكرة وعشية وفجرًا إلى مخاطبة ذاك الذي لا ينام لأنَّ العالم صنيعة يديه، ولأنّ الانسان القائم من بين الأموات ، في حضرته، هو المرتجى بالخلاص الثمين الذي افتداه على خشبة مرذولاً.

إنّ مسيح جورج خضر الكونيّ حاضر في ظلمات الفلسفات والآراء والمذاهب، وهو نائم ومنتبه بآن، إيمانا منه بأن القائم من بين الأموات لا يترك أحبته، وأنّ هذه العملية الخلاصية الّتي عمّدت الكون بالنّورانية المجانيّة لا ترى إلا الانسان في حضرة الله الدّائمة،  وأن ما كتبته الأرض بترابها إنّما هو كتابة سماوية في اتصال لا انفكاك فيه بين الـ”هنا”و الـ”هناك”، أو قلّ هذا العالم حاضر في الملكوت منذ كان، وأن مسلك البشر هو مسلك مؤلّه ، لأن الله منه هذه الأرض وهو آخذها في نورانيته وإليه، وهو وارثها ومن عليها وما.

مؤلم جورج خضر في لغته، لأنّه يردّك إلى جمالاتها الأولى، في زمن التشاويه الأخيرة. مؤلم لأنّه ببلاغته يريد لأيام العرب أن تتجلّى حضارة موروثة ومتجدّدة بآن. هذه اللغة التي هو منها وفيها، يأتيها مترجمة لانفعالاته، بقدر ما تحمله من تفجّرات ضياء، وانّها قادرة على التعبير عن التوجّهات والقضايا المعاصرة. لعلّه اختصرها بقوله إنّه من غير الصحيح “أن العربية أبت أن تتنصّر”. لقد صارت العربية له مطرح المطارح وصار لها أسقف خيمة، كما في التراث العربي الديني القديم، يغرف من مناهل المصادر ليصير مرجعًا في اللغة المكتوبة، ناحتًا وفصيحًا حتى صارت الفصاحة عنده شيئًا من السّبك الذهبي الخالص، في استعادة واضحة لدور اللغة في احتضان المعنى وملائمة الشكل للمضمون في ملاءمة ومشاكلة خارج اللبس والغموض. ألم يقل في نجواه:

” تُقرِئُني جانبًا منها جديدًا. أذوقها جديدة. تحْييني كلما نزلتْ على قلبي فتمسي هي فكري. دعها لا تنقطع خشْيةَ أن أجيء من كلماتي أنا. طَوِّعْ قلبي لك لينطق لساني بما أنزلتَه على النفس. بهذا يزول خوفي من نفسي وتستدرجني إلى الكشف الذي هو عيناك”.
صارت اللغة ذاك الكشف الإلهي،  بعدما كان القرآن الكريم عند المنفتحين كشفًا للعالمين، كشفًا نورانيّا لكثيرين، وبهذا الكشف امتشق جورج خضر لغة الانجيل العربيّة، فترجم معانيه وقضاياه في واقع العصر، مسائلا وحاضرًا في مجالس الفكر، حتّى صار إمامًا في الحوار المنفتح القابل للآخر، على اختلاف مذاهبه وأنماط حياته، ولكن في توادّ لا يعرفه إلا الهادئون المستنيرون الواعون حركة المسيح في عزّ العاصفة، وفي هدأة النسيم، والمؤمنون أن المسيح قائم في الشرايين والقلوب في محبة للآخر، فلا عجب إن علّم المطران جورج خضر الحضارة العربية في الجامعة اللبنانية، وهو آتٍ منها، في موضوعية الباحث، وحبّ العارف، وشوق الغارف، ووثبة المقدام غير العازف.

من هنا يرى خضر:” أنَّ المسيحي العربيّ لا يحاور الاسلام من موضع استشراق ولكنه يخاطبه من داخل المسيحية الشّرقية الذي كان الاسلام إطار عيشها الاجتماعي منذ خمسة عشر قرنًا، وله منها عمارة مساجده وبعض فنّه وتشبّه بعباداتها الّتي لم يفصّلها الوحي تفصيلاً، والمسيحية الشّرقية تعرّب لسانها بعد الفتح وكتبت في القرن الثّامن الميلادي العربية الفصحى البليغة حتى أعادت منذ القرن السابع عشر إلى العربية الرّونق الّذي فقدته في عصور الانحطاط. نحن في هذه الديار لسنا مستشرقين. نحن شرقيون وورثة للغة القرآن وليس عامي منّا لا يعرف منه آيات قلّت أو كثرت .لذلك حق ّ لأي واحد من أن يأسف لما حلّ بالاسلام المعاصر على صعيد الممارسة السياسية،  من هنا حقّ لنا أيضًا، بفضل التراث الّذي ننتمي إليه أن يكون الواحد منا حريصًا على ان يحيا المسلمون في سلام وأن يؤتوه إذا صحّ أن الاسلام مشتقٌ من السّلام”.

صحيح أنّ جورج خضر كتب في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا والجرح العربي النّازف، لكنه كان دائما يردّك إلى البدايات والاشراقات ، فالجرح هو الكلم، والكلمة منذ كان جرح نارف في هذا العالم، وأن تضميد الجراح هو أول البلسمة لقيام لا سقوط بعده إلا لتوبة نصوح. فلسطين الجريح تتوسّع وهو وجعٌ أنَّ به “خضر” ، وما زال، ألما في جسده وروحه، والجرح النازف في هذا الشّرق العربي ما زال يهزّه، لأن المسيح هو الجرح الأوّل المفتوح على الصّليب، وأن العالم هو صليب ، وأن الجرح/ الكلم يأتي من خاصرة السيد المهراقة، ولكن كلّ شيء مفتوح على الضّياء ومدعو ليحيا بنور القيامة.
بهذا الاستنهاض خرج جورج خضر في ربيع العام 1942 إلى خليجه ليحارب التنين، لم يخف من النّظر في عينيه، لم يشهر سيفه، بل شهر كلمته “الذي” آمن به فولّد حركة الشبيبة الأرثوذكسية من رحم المواجهة في فيافي البوادي العطشى فكانت واحة لكثيرين، وما زالت. جورج خضر من متقني نظرية” التوليد” في اللغة، فأجراها سُنَّةَ في حركته أو عروسته، فأنجبت وأينعت وأفرخت وكان له بنون يجتمعون حوله كأغصان الزيتون راضين، فأبى اجتماعهم حوله قائلاً لهم: أَنِ امضُوا إلى ربّكم، فهو المرتجى وإليه المآب. ولكن فاته أن العريس معهم اليوم فهم مبتهجون، وعند رحيله تبقى لهم كلماته وبها يحيون، لأنّها منسكبة من فاحص الكلى والقلوب، رغم إيمانهم أن كل كلام هباء في حضرة ضابط الكلّ ومن ندعوه في العشايا والأسحار.

من هنا جاءت جرأة جورج خضر في استباحة ،بالعقل والحرية، لمساحات التوتر المستور والقلق المحرّم، طالعا منها كالنّسر الفاهم الكلمة والشّارح الناقل أمانة للنص واجتهاداته. لم يتجرأ جورج خضر بل كان جريئا في مقاربته الشباب مشاركًا في الإجابة عن التّحديات التي تواجههم في مجتمع الإستهلاك مستنطقًا ما نهله من الينابيع التراثية ومترجمًا، بلغة العصر وبثقة، ما تسلّمه تسليمًا مقدّسا فمضى إلى مساحات متجددة المواكبة ما بين الأنسانية والألوهة، تلك الجدلية القائمة في تواصل ما بين السّماء والأرض، في تنزيه للألوهة وفي تنزيل البركات والنعم بآن على الجسد الانساني الفخاري المعطوب لينعم بالمجد والقيامة النورانية المتفجّرة.

هذه الترجمة قائمة بمودّة وابداع بين الكاتب والقارىء. يقول جورج خضر:” لا يكتب مبدعاً الا من نسي نفسه أو تغاضى عن عشقها. لذلك كان لمن يقرأ. من هذه الزّاوية صحّ القول إنَّ من تُعدُّهُ قارئا يكتب معك. في العمق الكاتب والمكتوب له وجدان واحد ويضع السطور من استطاع. في مرحلة من الوجدان لا تفرق بين ما تكتب ومن تكتب له. على مستوى الوجدان الكاتب والمكتوب له واحد ويمكن أن يصبحا واحدًا في الحب. الكاتب لا يختلف عمن يقرأه إلا من حيث إنَّ الكاتب كان أداة للإلهام والقارئ كان منفعلا بالأداة، قابلها. في الجوهر هما واحد واتفق أنَّ واحدا يكتب وآخر يقرأ. الكاتب ليس أهم منك قارئا. تلقى الالهام قبلك ثم اشتركتما فيه.أنت، منشئاً، استلمت في البدء ولكنك واحد مع الذي استلم بعدك. الأصل جاء ممن أعطى. والنعمة كلّ شيء. من نسميهم مبدعين يقولونها. الأصل في المبدع. ليس المبدع بالضّرورة من قال شيئاً جديداً. في الحقيقة ليس لأحد منا شيء جديد إلا بالصياغة، بالتعّبير أو الشكل. كلُّ المضمون قيل منذ افلاطون. المهم أن تكون واحدا مع الحقيقة ومع أهل الحقيقة”. .

مع جورج خضر أنت تنصرف إلى تلك التلمذة التي درج عليها الطامعون في المعرفة، ولعلّ باب علمِهِ يشهد لأهل السّلطة يأتونه، زرافات ووحدانا، ففي الصميم أنّ العلماء والولاة هم الذين يتصدرون الأمة، وجورج خضر من علماء هذا العصر وسادته، إذ تأنسن الحرف عنده ليتأله، فأقرن إيمانه بترجمته اللغوية، فكان أديب المقالة بامتياز إذ نظر الأعمى إلى أدبه، ، وكان ذهبي الفم فأسمعت كلماته من به صمم.

إنَّ” معظم كتابات جورج خضر مقالات على غرار كتّاب كثيرين حول العالم. لكننا أمام كاتب لا يضيره طول كتابة أو قصرها، إذ إن كلاً من مقالاته يرتسم مثل أيقونة تفتح لمن كان له عينان للنظر وأُذنان للسمع أبعادًا لا تنتهي، لا بل تفتح للكثيرين عيونًا وآذانًا. وها هو اليوم على عتبة التسعين يكتب وكأنه في الثلاثين جدّةً واندفاعًا. إنه سيّد المقالة في اللغة العربية. لا يمكن أن تقرأ مقالة واحدة له إلا وقد زدتَ علمًا وحكمة وبُعد نظر. ولو قصدتَ أن تقتطع من كل مقالة ما هو بمثابة أقوال مأثورة، لصنّفتَ كتابًا قيّمًا من مأثوراته التي يجتمع فيها اللاهوت والأدب والفلسفة والاجتماع والسياسة. المخاطَب عنده لا يقتصر على من انتمى إلى الأُرثوذكسية، ولا إلى المسيحية، ولا إلى الاسلام. المخاطَب عنده هو الانسان في انكساره ومحدوديته، في يأسه ورجائه، في عرائه وهو متروك وحيدًا يبحث عن درب خلاص”.

أطربتنا سيدي منذ تسعين سنة، بهذه السنوات التسعين نستعين لنشرب من هذا المعين الغني بالماء الحيّ، ذاك الذي يشربه المرء فلا يظمأ إلى الأبد. لقد ملأت سيدي كتاباتك وحوارك المنفتح الدّنيا وشغلت النّاس، كما بأسلوبك المكتوب وخطابك المنطوق، فاشتغلت بطوق الحقيقة ترميه على أعناق محبيك رمز انعتاق من ترابيتهم إلى ذاك النور الذي لا يغرب. لقد ألبستَ اللغة قضايا العصر فنطقت بها بهيّة تقود الناس إلى الخلاص الذي حملته ، إعلاناً وبشارة للأمم ومجدًا للشعب المؤمن.

يلمع معك وطني ،صاحب السيادة، رغم آلامه وأوجاعه وأنّاته، مشرقًا كطلّتك، ممشوقًا كقامتك، طالعًا منيرًا كهامتك، لقد صارت حروفك أبجدية متلالئة كحبّات المطر وصرنا إليها وجهًا وجبينًا وأسيلا كي ننعم بنداها وبأدعيتك بكرةً وظهرًا وأصيلاً.وإلى سنين عديدة
والسّلام

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share