الثالوث الأقدس

mjoa Tuesday December 10, 2013 252

نتابع، في هذه العجالة، الإضاءة على ناحية أخرى من فكر القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750). فبعد مقالة آنفة، منذ أحدين، عرضنا فيها لموضوع “القدّيس يوحنّا الدمشقيّ والإسلام” سوف نتناول اليوم موضوع الثالوث الأقدس في كتابات الدمشقيّ الذي يكرّس له فصلاً كاملاً في كتابه “المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”. ويوحنّا يشتهر بكونه استطاع إيجاز سبعة قرون من الفكر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ في كتاباته العديدة. لذلك يسعنا القول إنّ كتابه الآنف الذكر يتضمّن خلاصة الإيمان المسيحيّ والمجامع المسكونيّة السبعة، علمًا أنّ المجمع السابع (+787) الذي قد عُقد بعد وفاته قد تبنّى تعليمه عن الأيقونات المقدّسة ووجوب تكريمها.

ينطلق القدّيس الدمشقيّ من التأكيد على إيماننا بالله الواحد، وإن قلنا، في الوقت عينه، إنّ الله واحد في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. فيقول: “نؤمن بإله واحد، غير مخلوق ولا مولود، لا يزول ولا يموت، أبديّ، لا يُحصر ولا يُحدّ، ولا يحاط به، لا تُحصر قوّته… صانع كلّ المخلوقات ما يُرى منها وما لا يُرى، وكائن فوق كلّ الكائنات. فائق اللاهوت وفائق الصلاح. هو النور بالذات، والصلاح بالذات، والحياة بالذات، والجوهر بالذات، لأنّ وجوده ليس من غيره ولا من كلّ الموجودات، لأنّه هو ينبوع الوجود لها كلّها، وينبوع الحياة للأحياء وعلّة جميع الخيرات للجميع… هو عالم بكلّ الأشياء قبل كيانها، وهو جوهر واحد ولاهوت واحد وقوّة واحدة ومشيئة واحدة وفعل واحد ورئاسة واحدة وسلطة واحدة”.

ثمّ يؤكّد الدمشقيّ على اتّحاد الأقانيم على الرغم من تمايزها أحدها عن الآخر. ولا بدّ، هنا، من تفسير المقصود بلفظ “أقنوم” السريانيّ الأصل. لقد ميّز الآباء القدّيسون، ولا سيّما الآباء الكبادوكيّون: باسيليوس الكبير وغريغويريوس النزينزيّ وغريغوريوس النيصصيّ (القرن الرابع الميلاديّ)، ما بين الجوهر والأقنوم، فالأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس، لها جوهر واحد، أو طبيعة إلهيّة واحدة. وما يميّز الأقانيم أحدها عن الآخر هو العلاقة الخاصّة التي تربط كلاًّ منهم بالآخر. فالأبوّة هي ميزة الآب، والولادة من الآب هي ميزة الابن، والانبثاق من الآب هي ميزة الروح القدس. لذلك، يسعنا أن نضع ما هو مشترك بين الأقانيم الثلاثة تحت عنوان “الجوهر”، أمّا التمايزات أو الخصائص فنضعه تحت عنوان “الأقنوم”.

وفي السياق عينه يقول الدمشقيّ: “نؤمن بآب واحد، مبدإ الجميع وعلّتهم. لم يلده أحد، وهو وحده غير مولود، صانع الكلّ، وأب بالطبيعة لـمَن هو وحده “الابن الوحيد”، ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. وهو مصدر الروح القدس”. ثمّ يتحدّث عمّا يميّز الابن عن الآب، فيقول: “ونؤمن بابن الله الوحيد، ربّنا يسوع المسيح، المولود من الآب قبل كلّ الدهور… فبقولنا إنّه قبل الدهور، نبيّن أنّ ولادته لم تكن في الزمن ولم تبتدئ، لأنّ ابن الله لم ينتقل من العدم إلى الوجود… بل هو كائن دومًا مع الآب وفي الآب، مولود منه ولادة أزليّة لا بدء لها. فإنّه ما كان قطّ زمن لم يكن الابن فيه، بل حيثما الآب فهناك الابن المولود منه، لأنّه بدون الابن لا يسمّى آبًا. وإذا لم يكن له الابن، فليس هو آبًا. وهذا أفظع من كلّ كفر”. ولا يفوت الدمشقيّ أن يذكّر أنّ الابن هو “ابن الله الوحيد”، فيقول: “فهو الوحيد، لأنّه وُلد وحده من الآب ولادة وحيدة. فليس من ولادة أخرى تساوي ولادة الابن من الآب، وليس من ابن الله سواه”.

أمّا الروح القدس، وفق القدّيس الدمشقيّ، “فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الانبثاق هذه لا تُدرك ولا تُعرف، شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كلّ ما هو للآب هو أيضا للروح، ما عدا اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر أو رتبة مختلفين، بل إلى طريقة الوجود”. ويؤكّد يوحنّا على وحدة الجوهر، أي وحدة الألوهة، وعلى وحدة الخواصّ الإلهيّة: الصلاح والقوّة والمشيئة والفعل والسلطة. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، بل بإله واحد: “الآب وكلمته وروحه”. لكنّ الإله الواحد الذي نؤمن به هو في “ثلاثة أقانيم غير مختلطين، أي متميّزين، وغير منفصلين، ولا منقسمين”.فالأقانيم الثلاثة، يضيف يوحنّا، متّحدون، “بدون امتزاج، ولا تشويش، ولا انفصال، ولا انقسام”.

ويختم يوحنّا عرضه للإيمان بالثالوث بقوله: “نحن لا نقول بآلهة ثلاثة، آب وابن وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث الأقدس”. وهنا يستعمل يوحنّا، في سياق توضيح ماهيّة الثالوث، تشبيهًا قديمًا في اللاهوت المسيحيّ، فيقول: “كما أنّ الشعاع والنور من الشمس-وهي ينبوع الشعاع والنور-كذلك يمنح لنا إشراق نوره بواسطة الشعاع، فينيرنا به ويكون متعتنا”. الشمس لا يمكن أن تكون شمسًا من دون شعاع ونور، كذلك الآب لا يمكن أن يكون آبًا من دون ابن وروح. وكما أنّ الشمس لا تأتي إلينا كلّها، بل فقط بشعاعها ونورها، كذلك الله الآب لا يأتي إلينا إلاّ بابنه وروحه. وكما أنّ الشعاع والنور هما من ذات جوهر الشمس، كذلك الابن والروح هما من ذات جوهر الآب.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share