لعنة بابل أم برَكة العنصرة؟!

mjoa Tuesday December 17, 2013 66

بابل، في سِفر التّكوين، رمز اللّعنة، حين لا تكون للأرض بَرَكةٌ من العليّ، فلا يعود النّاس يفهمون بعضُهم بعضًا (الإصحاح 11). أمّا العنصرة فرمز للنّعمة الإلهيّة الّتي توحِّد، مهما تباينت ألسنة النّاس.

     من دون روح الرّبّ، ولو كان لسانُ البشر واحدًا، فإنّهم لا يكونون في صلةٍ أحدِهم بالآخر؛ ومن ثمّ، ولو أدركوا معاني الكلام الظّاهرة، فإنّهم لا يدركون مقاصد الكلام لدى مَن يصدر منهم، ولا تلقاهم يبلغون التّواصل الكيانيّ الحقّ فيما بينهم، ما يجعل كلاً يفهم ما يسمعه على هواه، ويؤكّد انعدامَ فَهْم النّاس أحدهم للآخر! على هذا، كان روح الرّبّ وحده مَن يوحِّد النّاس بالنّاس، ومَن يعطيهم أن يتفاهموا فيما بينهم! هذا صحيح لا فقط بين النّاس الّذين يشتركون في اللّسان الواحد، بل حتّى بين الّذين ينتمون إلى ألسنة متباينة!

     في أخبار الأب الشّيخ بائيسيوس الآثوسيّ، أنّه استضاف ألمانيًّا، ذات مرّة. لا الأب بائيسيوس كان يعرف الألمانيّة، ولا الألمانيّ كان يعرف اليونانيّة، لغةَ الشّيخ، ولا تكلّما بالإشارة، كما يفعل العاديّون، في مثل هذه الحالة. كلّ تكلّم بلغته، ولم يفطن إلى أنّ الآخر جاهلٌ للسانه. تحادثا بشكل طبيعيّ وفَهِم أحدهما الآخر تمامًا على مدى ساعات!

     خبر مماثل لهذا الخبر نُقل عن القدّيس برفيريوس الرّائيّ. صبيّة كانت تعاني أوجاع المعدة، دون سبب طبّيّ بيِّن. هذه صعد بها أحد كهنتنا الأنطاكيِّين من أثينا إلى دير الأب برفيريوس. فلمّا حان دور الصّبيّة لتدخل إليه، أراد الكاهن المرافق أن يدخل معها، فاعترضه الشّيخ: لماذا تريد أنت أن تدخل أيضًا؟ أجاب: لأنّ الصّبيّة لا تعرف اليونانيّة! فقال له القدّيس برفيريوس: ألا يفهم الرّبّ الإله لغتها؟ قال: طبعًا! قال: إذًا، إبقَ أنتَ خارجًا! وقد دامت جلسة الصّبيّة إلى الشّيخ ثلاثة أرباع السّاعة، خرجت، بعدها، مرتاحة تمامًا! فلمّا سألها الكاهن في الطّريق: بأيّة لغة كنتما تتكلّمان؟ لم تعرف بماذا تجيب، لكنّها أكّدت أنّ ما جرى بينهما كان حوارًا حقيقيًّا ممتعًا ونافعًا!

     لا شكّ أنّنا نعاني، اليوم، في مستوى العالم برمّته، بما في ذلك جماعة المؤمنين، بابل كونيّة! وما يُعرف بـ”وسائل الاتّصال الاجتماعيّ”، بالمعنى الشّامل للكلمة، لا هي، واقعًا، لا للتّواصل الأصيل، ولا لإغناء العلاقات الاجتماعيّة الحقّ بين النّاس. طبعًا، هذه وسائل، وبإمكانها أن تكون نافعة، إذا ما استُعملت بقصد حسن، وفي الإطار المناسب. أمّا إذا استُعملت للثّرثرة، أو بقصد رديء، فبإمكانها أن تكون لا مؤذية، بالمعنى العامّ للكلمة فقط، بل مشوِّشة ومضلِّلة ومُفسِدة، وحتّى مدمِّرة أيضًا! اتّساع دائرة تأثير وسائل الاتّصال المزعومة هذه يمكن أن يجعل حجم الضّرر الّذي يُلحقه مستعملو هذه الوسائل بالآخرين، واعين أو غير واعين، هائلاً! الكلمة، بما فيها الصّورة، شأن خطير! إذا لم تتعاطاها بالكثير من الدّراية والحبّ والإحساس بالمسؤوليّة، فإنّك تؤذي نفسك والآخرين! ليس أفتك من سلاح الكلمة، كما ليس أقدس من بنيان الكلمة! لا عن عبث كان ابنُ اللهِ المتجسِّد هو الكلمة!

     ثمّ، إذا ما قلنا: “تواصلاً”، فلهذا معنى محبّيّ كيانيّ عميق! الثّرثرة، في شأن مَن فعل ماذا، لغوٌ وليس تواصلاً! تعاطي البذاءات الكلاميّة لاأخلاق وليس تواصلاً! تداولُ حرمات النّاس لصوصيّة وليس تواصلاً! اختلاق الأخبار على البشر خِسَّة وجريمة وليس تواصلاً! حياكةُ المؤامرات على العباد دناءة ومسعى لهدمهم وليس تواصلاً! النّاس ليسوا للتّسلية ، ولا أعراضُهم، ولا مصائرُهم! كلاّ، ليس الأمرُ مُضحِكًا، ممتعًا، أبدًا! فقط مَن استبدّ به روحٌ شرّير يتعاطى الكلمة بسفاهة وحقارة ودناءة ولا مبالاة بما يحدث للنّاس من جرّائها، لأنّ الشّرّير وحده مَن يروم إفسادَ قلوبنا وتلويث عقولنا، وتضليلنا وإهلاكنا، والآخرين بنا! هذه متعتُه المريضة! الشّرّير وحده مَن يروم حتّى استعمال كلمة الله الخلاصيّة لتضليل النّاس وهياجهم وتناهشهم وتدميرهم! هذا أشبه بمَن يجد لذّة بِلَعْق دم البشر! فقط الشّيطان يستطيب الكذب والقتل، وكذا مَن ملأت أفكارُه عقولَهم!

     المؤمن بالرّبّ يسوع لا يسمح لنفسه، تحت أيّ ظرف، بأن يسلك على هذا النّحو، مهما كانت الوسائل، تلك، ميسَّرة لديه، كأمور مسلِّية(!)، ومهما كانت، في عينه جذّابة ومألوفة وسهلة، وكلّ النّاس يتعاطونها، لأنّه ينظر إلى الغاية منها، إلى ما يمكن أن تؤدّي به وبالآخرين إليه! مَن يُلقي كلامه يمينًا ويسارًا، خبط عشواء، بروح الحقد والتّجريح والتّشفّي والشّتيمة، بحجّة الدّفاع عن الحقّ والغيرة على الإيمان، يروِّج لروح الشّيطان باستعمال كلام الله، وللظّلمة بثوب النّور! أخوك إذا ما عثر تغطّيه بردائك، وإذا ما وقع تبكيه، وإذا ما شرد تصلّي إلى ربّك، بوجع قلب، ليستردّه! وإذا ما تفوَّه بكلام مسيء تصطبر عليه بصمت وابتهال إلى ربّك، كمصاب بحمّى الخطيئة، لينيره بحكمة من لدنه ويثيبه إليه! أخوك لحمُك ودمُك لأنّه جسدُ مسيحك ودمُه! إن كرهتَه فكيف لك أن تحبّ ربّك؟!

     عندنا مشكلة؟ ماذا إذًا؟ هذه ليست لا أوّل ولا آخر مشكلة! التّجارب في الكنيسة مجالات لتجديد المحبّة والصّلاة والصّبر والاتّضاع والوحدة، لا لإلغاء بعضنا البعض ونهش أحدنا الآخر! ألم تقرأوا ما قاله الرّسول بولس لأهل غلاطية؟ “إذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلاّ تُفنوا بعضكم بعضًا” (5: 15)! ما هذا؟! لا نريد أن نسمع، وإذا سمعنا فَلِيَشْتُمَ أحدُنا الآخر ويشكِّكَ في نواياه ويقوِّله ما لم يَقلْه ويخترعَ عليه الاتّهامات والمؤامرات والأكاذيب! إذا تكلّم فكلامه مقوَّل، وإذا صمت فصمتُه مقوَّل! أأولاد شارع نحن أم أولاد كنيسة؟! أهكذا نتعاطى شؤون الكنيسة على طريقة سكّان الأدغال؟! أما ترون كيف تفشّت بابل كالطّاعون بيننا؟! الأبالسة تقيم الحفلة تلو الحفلة على وقع الأحقاد والضّغائن والفوضى والشّتائم بين المعتَبَرين أبناء الإيمان الواحد! يا قوم، تلحسون المبرد! سبيلنا، بالحري، أن نبكي، أن نصمت، أن نركع، أن نصلّي، لا أن ندلو كلٌّ بدَلْوِه في بئر موحلة قذرة دنسة! أليس أجدى بنا أن ينظر كلُّ واحد إلى نفسه، إلى خطيئته؟!

     أمّا الأمر الشّائك الّذي يزعجكم به الشّرّير فاتركوه لذوي الشّأن لتتمّ معالجته بلياقة وترتيب! وليلزم كلٌّ الهدوء والابتهال لتسكن العاصفةُ الشّيطانيّة الثّائرة علينا، بأيدينا، حتّى لا نوجد ممزِّقين ثوبَ المسيح في هذه الدّيار! كفى أنطاكية آلامًا! كفانا عبثًا!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share