ثمّة مَن يعتبر أنّ للقسوة والصّرامة معنى واحدًا، فيحسبون القاسي صارمًا والصّارمَ قاسيًا. هذا غير صحيح. الله صارم، لكنّه ليس قاسيًا أبدًا! في سِفر القضاة، بعد يشوع، لم يسلك الرّبّ الإله كصارم، في تعامله مع بني إسرائيل، أو بكلام كتابيّ، لم يَحْمَ غضبُه عليهم ليدفعهم بأيدي ناهبيهم، إلاّ بعدما فعلوا الشّرّ في عينيه وعبدوا البعليم وتركوا إله آبائهم! إصرارهم في غيّهم هو ما دفعه إلى التّعامل معهم على نحو صارم! هكذا سلك معهم، في الحقيقة، كلّ حين! في المقابل، كلّما تاب الشّعب، إلى ربّه، عن ضلاله، كان يصفح عنه! مثل ذلك حال نينوى أيّام النّبيّ يونان. لسان حال العليّ كان: ارجعوا، أي توبوا، وأحيوا!
لا يُسرّ الرّبُّ الإله بموت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا! إذًا، صرامتُه صادرة عن محبّة، وعن إرادة خلاصه لهم وعودتهم من قسوة قلوبهم! فقط متى ضلّ الشّعب وعاند ولمّا يرتدّ، عامله إلهه بشكل صارم، إذ لا يعود أمامه سوى أن يؤدّبه ليستردّه بالألم! لا يتخلّى الله عن قصد خلاصه لشعبه، أنّى تكن الطّريقة لإحقاق ذلك! فإن ارعوى الشّعب وتاب ضمّه ربُّه إليه بحنان عظيم وحفظه كحدقة العين! على هذا، الصّرامة تأتي من قلب محبّ لا من قلب قاس! فقط مَن يحبّ يقدر أن يكون صارمًا، بالمعنى الرّصين للكلمة، وكذا مَن يتعاطى والآخرين بصرامة، متى دعت الحاجة، يقدر أن يحبّ بمحبّة الله!
هناك، إذًا، توازن بين الصّرامة والمحبّة. مَن ليس قادرًا على أن يكون صارمًا، عند اللّزوم، تستحيل المحبّة لديه جملة عواطف بشريّة معطوبة مائعة فارغة! لا تكون على مثال محبّة الله الخلاصيّة. كذلك مَن ليس قلبُه مفعمًا بالمحبّة لا يستطيع أن يكون صارمًا بالمعنى البنّاء! إذًا الصّرامة والمحبّة معًا تصدران عن قلب يتبنّى ويبني. وإلاّ يتعاطى المرء القسوة لا الصّرامة! الصّرامة تصدر من قلب موجوع، رحيم، حريص على سلامة نفس مَن يُعامَل بصرامة. القسوة شيءٌ آخر تمامًا. القسوة تنبع من كائن بلا قلب! ناجمة عن أهواء! فيها التّشفّي بمعنى! ولا تبالي بالآخر كآخر! مستعدّة لأن تطيحه، لأن تلغيه، باسم النّظام والسّلطة أو ما يعادلهما.
تأتي القسوة، كردّة فعل، للتّخلّص من الآخر أو من إزعاجه أو تهديداته. فيما الصّرامة تأتي من معاناة محبّيّة. من ألم على الآخر. قلب الإنسان شرّير منذ حداثته، قال الكتاب. السّؤال: ماذا تفعل لتخرجه من الظّلمة إلى النّور، من الهلاك إلى الخلاص؟ لا يمكنك، بإزاء تماديه في غيّه، إلاّ أن تُعرض عنه، إلاّ أن تسلمه إلى الألم والذّلّ، لكنّك تنتظره، كالأب الرّحيم الابنَ الشّاطر، ليعود من ذاته، بعدما تكون خطيئته قد جرّدته من كلّ كرامة إنسانيّة، وجعلته عشير الخنازير العقليّة!
لا شكّ أنّ تعاطي الصّرامة يحتاج إلى تمرّس على المحبّة، على قطع المشيئة بإزاء الله، على محاربة أهواء النّفس، على نقض أفكار السّوء في القلب. بسهولة، يمكن أن يخلط المرء بين الصّرامة والقسوة. يدّعي المحبّة ولا يكون عليها. ويُسبغُ على قسوته كلمات إلهيّة. كيف نميِّز؟ لا شكّ أنّ الأمر يحتاج إلى صحو كبير، إلى جهاد لا يخبو! أوّل الحاجة هي إلى أن يحرص المرء على ألاّ يطلب ما لنفسه. ولكون النّفس حيّالة، يحتاج إلى استنارة من فوق، لكي لا يقع في ذاتيّة المسعى، فيكونَ شكلُ الموقف، موقفِ صاحبه، إذ ذاك، إلهيًّا، فيما يكون مضمونُه مشبعًا بالإرادة الذّاتيّة! موقف التّخلّي، وَضْعُ إفراغ الذّات، يحتاج إلى نعمة وإلى جهاد ليسا بقليلَين، في آن معًا. لا شكّ أنّ العليّ يُسبغ نعمة خاصّة، في هذا السّياق، على مَن يريدون، على مَن يشتاقون، على مَن يطلبون صنع إرادة الله، ولا شيء إلاّها! من هنا أنّ الأمر ليس من نوع ما يُحكَم عليه بحسب الظّاهر، ولا كلّ امرء قادرٌ على أن يميِّز الصّرامة من القسوة، وما هو من محبّة الله ممّا هو من أهواء النّفس. فقط الّذين لا يعرفون يرتجلون الأحكام. أمّا العارف فيلزم الصّمت لأنّ المحبّة تستدعي السّكوت! موقف القلب العميق يبقى خارج نطاق الإعلام! وحدهم الّذين هم على موجة روحيّة واحدة يلتقطون حركة الرّوح الواحد! في كلّ حال، السّاعون إلى وجه ربّهم، يحرصون على عدم الادّعاء، وعلى عدم البوح بما يتحرّك في أحشائهم، وحتّى على السّلوك بيقين كأنّهم لا يعرفون، لأنّ عمل النّعمة فيهم يترافق وشعور عميق بالضّعف والعجز البشريَّين!
في الزّمن الجديد، في غمرة الأيّام الصّعبة، كلٌّ بحاجة لأن ينأى عن العتاقة الّتي في نفسه. فقط مَن لا يطلب شيئًا يُعطى، من دون طلب، كلَّ شيء. إفراغ الذّات هو أقصى ما يمكن الإنسان فعله، وليس من دون نعمة خاصّة من علو! فقط أصالة الموقف الكيانيّ العميق تستدعي النّعمة الكيانيّة العميقة! إذ بدون الله لا نستطيع شيئًا، حتّى أبسط الأمور. لو تُرك الإنسان لنفسه ما أمكنه أن يقوم بأيّ عمل دون أن يطلب فيه شيئًا، ولو قليلاً، لنفسه! القلب نجيس، مَن يعرفه! لذا كان هاجس إفراغ الذّات أهم ما بإمكان الإنسان أن يتعاطاه في يوميّاته! التّواري إلاّ عن عين الله وحده فضيلة، لا بل الفضيلة العظمى في حياة كلّ منّا! أن يموت المرء عن نفسه، عمّا هو له، أن يتمرّس، يوميًّا، على ذلك، هو أساس الحياة الرّوحيّة، هو مُنطلق سيرة الفضيلة! إمّا عشق الله وإمّا عشق الذّات! الواحد يلغي الآخر، ولا تلفيق بينهما! السّقوط يَسقط بامّحاء الذّات، إراديًّا! ساعتذاك يبلغ المرء التّواضع! التّواضع بمعنى أن يتبنّى المرء، بنعمة الله، حقيقته العميقة، أنّه كائن ترابيّ وضيع! الرّبّ الإله لم يأت إلاّ في التّواضع الكبير، لنتعلّم منه أنّه محال علينا أن نلتقيه وجهًا لوجه إلاّ في تواضع كتواضعه! الوجود الكبير قائم في التّواضع الأقصى!
قاس هو الله؟! كلاّ، البتّة! القدّيس سلوان الآثوسيّ جاهد حتّى استنفد نفسه. ولمّا ظنّ، بشريًّا، رغم كلّ ما بذل، أنّ الله قاس، لأنّه لم يقابِل أتعاب قدّيسه بأنعامه، عاين السّيّد، في بحر من الرّقّة والرّفق والحنان! ولمّا يَكشف له الرّبّ الإله نفسَه لجهاداته، بل لأنّه أدرك أنّ الله خارج نطاق أتعابه، أبعد منها، لا يأتي كمجازاة، كثواب، بل يأتي كنعمة مجّانيّة! لا يمكننا أن نقول إنّه تواضع، لذا أتته النّعمة، لأنّه حتّى الأخير كان يتعب لتأتي النّعمة عليه، بل لأنّه صار مهيّئًا للاتّضاع أتته النّعمة! والاتّضاع لا يأتي بالكامل إلاّ بالموت! “في يديك أستودع روحي”! ساعتذاك يتكمّل المرء بالنّعمة! لذا لمّا سأل الأب صفروني القدّيس سلوان، وهو على فراش الموت، ما إذا كان سيموت؟ أجاب: لم أبلغ، بعد، الاتّضاع! كان يتكلّم عن الموت عن الذّات بالاتّضاع، لا عن موت الجسد! إنسان الله يطلب الموت عن نفسه بإرادته، كلّ حين، إفراغَ ذاته، ومتّى أطلّ عليه يصير موتُ الجسد موضعَ تجلّ للحياة الإلهيّة، ثابورَ الشّخصيّ لكلّ واحد منّا!
في الزّمن الجديد، نجدّد، أبدًا، العهد، على الدّخول في مسير القسوة حيال الذّات نحو تواضع ينضح بالمحبّة، تترجمه، حيال الآخرين، وِقفة فيها المحبّة الرّقراقة الفائضة حنانًا كبيرًا على صرامة كاملة، حتّى يضمّ الرّبُّ الإله، كلّ يوم، إلى الكنيسة، الّذين يخلصون (أعمال 2: 47)! بالحنان الكبير والصّرامة الكاملة تتكمّل الصّورة!