صاحب القداسة،
أحبتي بالمسيح الرب وإخوتي بالإنسانية المفتداة،
بعد حمد الرب القدير وتقديم الشكر لقداستكم ولكلّ منظمي هذا اللقاء، يطيب لي أن أتوجه إليكم ونحن في بواكير أيام السنة ٢٠١4 لمجيء يسوع المسيح، ربّنا ومخلصنا، ببعض من هواجس وتطلعات وأن أنقل إليكم بعضاً من مبادئ عيش إنسان مشرقنا العربي الأنطاكي، أنتم يامن كُنْتُمْ دوماً على أُخوّة وتلاقٍ معنا وعلى قرب وانعطافٍ نحو إنسان أوطاننا وخير مجتمعاتها.
المسيحية الأنطاكية كانت دوماً ولا تزال غصناً ندياً وجذعاً ضارباً في آن معاً في عمق مسيحية كلّ الأمم.
هي جذعٌ صلبٌ وغصنٌ نديٌ في كنيسة المسيح. فيها يَبَسُ الجذع وصلابته من حيث حفاظها على تقاليد الرسل ولاهوت الآباء المعاش على صفحات القلوب، وفيها في الوقت نفسه نداوة الغصن الطري الغضّ وفتاوته من حيث انعتاقها من أدران التاريخ واحتفاظها ببذرة الإيمان الحي الذي يتلقفه مؤمنوها من صدور الأمهات قبل صدور الكتب وتوسُّلِها كلّ الطرق لتكون قريبةً من إنسان مشرقنا ومشاركَتِها في بناء غده المشرق.
إيمان كنيسة أنطاكية وغيرتها الرسولية هي التي ألهمت جيرة أتباع يسوع هناك أن يدعوهم “مسيحيين”. وإيمان المسيحيين الأنطاكيين ًوغيرتهم هما اللذان دمغاهم بختم اسم يسوع.
وختم يسوع هذا يقويهم رغم كلّ ضعفاتهم ليشهدوا له في كلّ زمان ومكان.
” المسيحيُّ الأنطاكي هو تماماً كإغناطيوس المتوشح بالله، تقيّده أصفاد الدنيا وهمومها وتكدّه في رحلة حياته أمواجُ بحرِ هذا العالم ويبقى همَّه الأولَ إيمانُه الذي يسلّمه لأولاده. “
كنيسة ُأنطاكية لهُ كأمٍّ، لكن بنوّته لها وأمومتها له تجعله يمخر عباب الدنيا حافظاً ذكراها في قلبه دون أن تثنيه أبداً هذه الذكرى عن أن يكون عضواً فاعلاً في كل المجتمعات التي يرودها.
المسيحي الأنطاكي هو على مثال إغناطيوس الأنطاكي، كما ذكرت، يخفق حباً بكنيسته ويطلب الصلاة من أجلها ومن أجل الوطن أينما حل.
لمْ تعرف المسيحيّة الأنطاكية، إذا ما جاز لنا التعبير، ما نسميه بلغة اليوم تقوقعاً وانكماشاً لا بل على العكس، عرفت في كثيرٍ من الأحيان تمازجاً وارتشافاً لتياراتٍ كثيرة قدّمت لفكرٍ متحركٍ منذ غابر الأيام وهذا ما ألهم أحد أسلافنا البطاركة أن يقول: “أنطاكية لا تنام أبداً، هي دوماً في يقظةٍ دائمةٍ وفكرٍ متجددٍ خلاق، وما كثرة الانقسامات اللاهوتية فيها، على مر العصور، إلا دليلٌ جليٌ على حيوية روحها وفكرها”.
والكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، التي نحن منها، عرفت دوماً أخوة الإيمان مع غيرها من الكنائس ومع البطريركية الروسية بشكل خاص.
لم تدُرْ البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية في فلك أحدٍ وأنى لها أن تدور إلا في فلك يسوع، إلا أن هذا لا يعني أبداً أنها لم تستعنْ بأخواتها في الإيمان وبغيرهم لتثبّت أقدامها في أرضها ولتقدّم الأفضل للبشرية.
والأيام الحاضرة والمساعدات الإنسانية من الأخت الروسية إثباتٌ لما نقول. نحن يا إخوتي شاكرون لكل أخ وأخت في روسيا أعطى من زاده من أجل أخ له شرّده واقع الحال في سوريا. ونطلب صلوات إخوتنا المؤمنين في روسيا من أجل سوريا ومن أجل إنسانها المهجر والمخطوف والمفجوع والتائق دوماً إلى السلام الذي لطالما زيّن حياته.
نحن في روسيا ولسان حالنا ينطق بكلمات سلفنا غريغوريوس حداد يوم استقبله هذا الشعب الطيب قبل مائة عام، وبالتحديد سنة 1913 “أدام الله رحمته على روسيا”. نحن هنا لنقول مجدداً: أدام الله رحمته على هذا الشعب الطيب والأمة العريقة التي أتحفت المسيحية بقديسين وشهداء.
بوركت الأرض التي أنجبت القديس سرجيوس.
وهنا تسمح لي محبتكم أن أتوجّه بالتهنئة القلبية لكل الشعب الروسي الذي يقيم ذكرى مرور سبعمائة سنة على ميلاده الصيف المقبل، فلتشملنا جميعاً شفاعاته.
بوركت وقدّست الأرض التي أبزغت سرافيم ساروف ويوحنا الروسي وسلوان الآثوسي وسائر الآباء والشهداء والمعترفين،
وبوركت الحضارة التي أعطت للإنسانية جمعاء دوستويفسكي وتولوستوي وبرديايف، الذين غذّوا أرواحنا بنفحة الإنسانية المنبعثة من تراب روسيا وأغنَوها بروائع الأدب الروسي. أدام الله رحمته وسلامه على روسيا وعلى شعبها الطيب.
يا صاحب القداسة،
شاءت الأقدار أن نقوم بزيارتنا السلامية ومشرقنا يرزح تحت ثقل صليب إنسانه.
نحن مدعوون على مثال فادينا أن نحمل وزر الصليب بقوة منْ في الضعف تكمن قوته. ومن صلبِ إيماننا بأنّ الصليب هو فاتحُ فجر القيامة، نكملُ دربنا غير هيّابين عتوّ التجربة.
لكننا بالنهاية بشرٌ لنا لجج ضعفاتنا، وربنا ومعلمنا صلى بشرياً كيما تبتعد عنه كأس الصليب. نحن نصلي أن يرأف الرب بنا وأن يشفق على إنسان مشرقنا وأن يمنح السلام لبلادنا وبلادكم.
قلناها مراراً ونقولها دوماً: “منطق السلام والحوار أقوى وأحلى من منطق الصراع”.
والقبول بالآخر، عدا عن كونه شعاراً ديبلوماسياً، متأتٍ من عمق أدبنا المسيحي الرهباني. وهذا بالضبط ما ترويه قصة مكاريوس الكبير الذي صادف مرة جمجمة في صحراء مصر فمسّها بطرف عصاه قائلاً لصاحبها “أين أنتَ؟” فأجابه “في الجحيم” فقال البار “وما حالُكم هناك؟”. فجاءه الجواب “في عذابٍ عظيمٍ لأن كلاً منا مقيدُ الظهر على ظهر الآخر دون أن يستطيع رؤية وجهه”.
ومن هنا أقول أن قيامة سوريا هي رؤية وجه الآخر، هي بقبول الآخر، لا بتكفيره.
قيامة سوريا وربيعها الحقّ هو حوارٌ غير مشروط وحل سياسيٌّ يحقن دماء الأبرياء.
قيامتها أن تتحمل كلّ حكومات العالم دورها في الإسراع بتوطيد السلام في ربوعها وفي إقفال ملف المخطوفين ومنهم المطرانان يوحنا وبولس والكهنة وراهبات معلولا ويتاماها الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم حملوا صليبهم وكانوا سفراء سلامٍ ومصالحةٍ.
ما أغرب التشدق بحقوق الإنسان والتوقيع على هذه الشرعة منذ أكثر من سبعين سنةً، إذا كنا لا نرى أفعالاً تدمغ التوقيع بخَتْم المصداقية وتحملُه من صفحات الكتب إلى الواقع!
وما أغرب التذرّع بانتهاك تلك الحقوق للوصول إلى غاياتٍ أخرى!
والحوار وقبول الآخر هو سبيلنا الوحيد أيضاً لنحافظ على بلد الأرز الغالي، على لبنان.
لبنان يستحق من اللبنانيين ومن الدنيا برمتها أن يكون اسماً على مسمى.
وليكن بياض ثلجه ونقاوته كما كان دوماً صورة لبياض القلوب ومنعكساً لقرارة عينه واطمئنان إنسانه. يعز علينا أن نرى فيه شبح فراغ السلطة.
لبنان مدعوٌّ بسلطة المحبة أن يكون وطناً تنتفي فيه محبة السلطة أمام سلطة المحبة، لأن المحبة البشرية على نواقصها تبني المجتمع وتعزز مبدأ المواطنة والعيش المشترك بين سائر أطيافه.
ومن هنا نجدد قولنا أن الكل في لبنان مدعوٌّ لنبذ منطق الأكثرية والأقلية واعتماد منطق الوطن الواحد والعيش الواحد الذي يجمع الكل تحت مظلّةِ لبنان.
ومن روسيا أيضاً أرفع صلاتي من أجل العراق الذي تضربه يد العنف والإرهاب وتجتاح فيه البشر والحجر، ومن أجل فلسطين ومصر وكلّ المشرق الذي يفتقد في هذه الأيام نسيم الطمأنينة ونفحة السلام.
نحن في أنطاكية لن نكلّ أبداً عن رفع صوتنا.
وصوتنا سلاميٌّ لكنه لن يكون خافتاً وخفِراً في وجه من يستبيح سلامنا. ولن يعرف استكانةً في وجه الإرهاب والتكفير الذي ندرك ونعرف نحن المسيحيين الأنطاكيين أنه غريبٌ عن وجه الإسلام السمح الذي عرفناه دوماً في بلاد الشام ومعه تقاسمنا مصيراً ووحدة حالٍ وأخوّة حقّةً تشهد لها كلّ حوادث التاريخ رغم صعوبة مسالكه بعض الأحيان.
الآخر كما اعتاد أن يقول سلفنا البطريرك إغناطيوس هو جزء من كينونتنا ومتمم لها. فيه نرى ذاتنا وعبره نصل إلى التماس وجه خالقنا.
المسيحية المشرقية ترى في الإسلام شريك تاريخٍ وشريك أرضٍ وترى فيه أيضاً مؤتمَناً على حضارةٍ عربيةٍ شاركته هي أيضاً بناء مداميكها، والإسلام الذي نعرفه في بلادنا مدعوٌّ أن يرى فينا مسيحيين مشرقيين أصيلين وجسر تواصلٍ مع إخوةٍ لنا في الإيمان شرقاً وغرباً.
وكلّ هذا يخولنا أن نقول أن المسيحية والإسلام هما رئتا ديارنا اللتان تتنفس بهما وهما مدعوتان أن تكونا لها بمثابة الكِلى التي تنقيها من كلّ أدران التاريخ ورواسبه ومن كلّ الإيديولوجيات المتطرفة التي لا تمت لوجههما السمح بصلةٍ، مسيحيةً كانت أو إسلاميةً.
وفي الختام أوجه عميق الشكر لكم ياصاحب القداسة وأتوجه باسمي وباسم الإخوة المرافقين لي لمنظمي هذا اللقاء ولوسائل الإعلام التي أسمعت صوتنا الأنطاكي في موسكو.
أعطنا يارب نور سلامك الحق واحفظ روسيا وسوريا ولبنان والمشرق كله والعالم أجمع بستر عنايتك الإلهية، لك المجد إلى الأبد.