“أنا الطريق والحقّ والحياة” (يوحنّا 14، 6) يقول السيّد المسيح. والمسيحيّ يفهم هذا القول التزامًا محقَّقًا في “الآن وهنا”، حيث يوجد ويتنفّس ويتحرّك.
أن يكون المسيح هو الطريق يعني أن ينهج المسيحيّ نهج معلّمه، أي المضي في الحبّ إلى أقصاه، إلى حدّ بذل الذات من أجل الآخر، إذ “إنّ العبد ليس أفضلَ من سيّده”.
أن يكون المسيح هو الحقّ، يعني أن يعمل المسيحيّ ما وسع قدرته لأجل إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، حيث يرى ظلمًا أو عدوانًا أو قهرًا.
أن يكون المسيح هو الحياة، يعني أن يحيا المسيحيّ في حياته اليوميّة كما عاش المسيح، أن يكون هو وحده القدوة والمثال والأسوة الحسنة.
هكذا نجد المسيح رفيق المستضعَفين والمعذَّبين في الارض، جاع معهم، وعطش معهم، ولم يكن له موضعٌ يُسند إليه رأسه. لذلك، ليست المسيحيّة مجرّد حياة روحيّة نتقدّم فيها بالصلوات والأصوام فحسب، بل هي التزام مادّيّ ومعنويّ بالإنسان القريب، لا القريب باللحم والدم والتناسل الطبيعيّ، بل الذي “صار قريبًا” بعد أن صنعتَ إليه الرحمة.
ساوى المسيح نفسه بالمستضعَفين والمضطهَدين والمعذَّبين في الأرض، وقال إنّ الأساس الذي تقوم عليه الدينونة في اليوم الأخير ليس سوى المحبّة التي يكنّها الإنسان تجاه أخيه الإنسان والمتجسّدة بالرحمة. ويبقى القول بأنّ “الله محبّة”، أو “الله رحيم”، أو “الله قدّوس”، عقيمًا ولن يصدّقه أحد من البشر، إنْ لم تنعكس هذه الحقائق في حياة المؤمنين بها.
اللافت في هذا المضمار ما ورد في إنجيل متّى حول معايير الدينونة، حيث يُسأل الناس المحشورون سؤالاً واحدًا يحدّد مصيرهم: “ماذا فعلتَ بأخيك الإنسان؟” ويعطي المسيح الجواب للناجين من النار المؤبّدة: “لأنّي جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليّ”، مؤكّدًا لمستمعيه: “كلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه” (25، 31-46).
أمّا ذروة الحياة المسيحيّة فتتجلّى في أبهى صورها بالصليب، حيث وهب السيّد المسيح ذاته مجّانًا “من أجل حياة العالم”. هكذا المسيحيّ ينبغي أن يحبّ أخاه الإنسان، إلى حدّ بذل الذات من أجل أن يحيا الآخر الموضوع في عهدته. وفي هذا يقول المسيح: “مَن أراد أن يتبعَني فليكفُرْ بنفسه ويحملْ صليبه ويتبعْني. لأنّ مَن أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومَن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلّصُها. فإنّه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالمَ كلّه وخسر نفسه” (مرقس 8، 34-36).
لا ريب في أنّ “التطويبات التسع”، التي افتتح بها المسيح بشارته السارّة في موعظته الشهيرة على الجبل، تتضمّن خلاصة تعاليمه. فهو يمنح الطوبى، أي الحياة الأبديّة، للـ”الفقراء بالروح، والودعاء، والمحزونين، والجياع والعطاش إلى البرّ، والرحماء، وأطهار القلوب، والساعين إلى السلام، والمضطهَدين على البرّ”. هل يجب علينا انتظار مجيء المسيح ثانيةً لكي تعمّ هذه الطوبى؟ كلاّ، فهي حاضرة منذ الآن في مَن يحياها على الرجاء.