لِمَ اضطرّ بولس، الذي يقتدي بوداعة ربّه في كلّ شيء، إلى أن يقول في أواخر رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “إن كان أحد لا يحبّ الربّ، فاللعنة عليه (أو: “فليكن أناثيما”)!” (16: 22)؟
هذا سؤال يفترض سؤالاً آخر، أي: هل الذي أوصى “باركوا، ولا تلعنوا” (رومية 12: 14؛ قابل مع: متّى 5: 44)، يئس من بعض أهل كورنثوس (أو من سواهم)، حتّى قال ما قاله؟ على كون هذا السؤال المفترَض سؤالاً لا يليق بنا طرحه، يجب أن نجيب عنه بثقة: لا، لا! فالذين أعطوا قلوبهم لله وللإخوة لا يمكن أيّ أمر أن يجعلهم يقطعون رجاءهم بالناس، ويقصونهم عن الخير نهائيًّا. وإذًا، لِمَ هذه اللعنة؟
ما يجب أن نلاحظه أوّلاً، هو أنّ الرسول لم يسمِّ مَنْ رأى أنّهم قد يقعون تحت قضاء اللعنة (أي لم يلعن أحدًا باسمه). كان يعرف أنّ ثمّة أشخاصًا، في غير مكان، حياتهم لعنة. وعلى ذلك، لم يتلفّظ باسمِ أيٍّ منهم. فتح قوله، كما لو أنّه يشجّع قرّاءه جميعًا على أن يفحصوا أنفسهم بأنفسهم. كلّ قارئ منهم، انطلاقًا ممّا أنشأه لهم، يمكنه أن يعرف إن كانت حياته بركةً أو لعنة. وهذا يضع بولس له، في قوله، قياسًا واحدًا، أي: إن كان أحد لا يحبّ الربّ (يسوع). لم يقل شيئًا آخر هنا. لم يذكّر بمقتضيات الالتزام الذي قال فيه الكثير، بل حصر وقوع اللعنة بعدم الحبّ، أي جعل المحبّة قاعدة كلّ التزام كنسيّ وهدفه. لم يدّعِ أنّه فاحص قلب أيٍّ مِمَّنْ سيصغون إلى كلماته. لكنّه أدخل ما قاله في صميم قلوبهم، واحدًا واحدًا. ذكر ما قد يجعلهم يقرأون كلامه في دواخلهم. هذا من طبيعة الكلمة الجديدة والمجدّدة. فللكلمة الجديدة صفحات جديدة. وهذه لم تبقَ ألواحًا من حجر، بل غدت قلوبًا من لحم (إرميا 31: 33). مَنْ أنتم؟ كيف تراكم تحيون؟ مَنْ هو إلهكم الحقيقيّ؟ هل تحبّونه فعلاً؟ هذه هي الأسئلة التي يحرّكها قوله.
ثمّ يجب أن نلاحظ أنّ بولس العفيف لم يقل: إن كان أحد لا يحبّ الربّ، فأنا ألعنه، بل قال، كما قرأنا، حرفيًّا: “اللعنة عليه”. وهذه حكمتها إرادته أن يستدرّ المؤمنون، في كورنثوس، البركة الأخيرة قَبْلَ أوان اللعنة التي لا بدّ من أنّها “قريبة على الأبواب” (متّى 24: 33). إنّنا، بما قاله، نراه يذكّرهم (ويذكّرنا) بأنّ الإنسان، إذا استغرق في علاقة مشوَّهة بالله، هو مَنْ سيجلب على نفسه لعناته. هل من دليل، علم به أو وصل إليه، رآه يشوِّه علاقتهم بالله؟ إذا دقّقنا في رسالته عينها، نرى دلائلَ عدّة. منها مثلاً: أن يلتزم واحدٌ الإيمان بالله، فيما يزرع الشقاق في الجماعة (1: 11 و12)، أو يحتكم لإغراء الحكمة البشريّة (1: 19 و20)، أو يحيا حياةً فاحشةً (5: 1- 13) أو فاجرة (6: 12- 20)، أو يقاضي أخًا له أمام المحاكم الوثنيّة (6: 1- 11) أو يشارك في مآدب الوثنيّين (10: 14- 22)، أو يُدخل البلبلة في أثناء اجتماع العبادة (11: 2- 34) أو يحتقر مواهب الإخوة ولا سيّما منهم الضعفاء والتافهين (12- 14)، أو يرتهن للعبادات الغبيّة التي تدخل الاضطرابات في حياة الجماعة الكنسيّة (14: 26- 38)، أو يضلّ في عقيدة قيامة الموتى (15)، وغيرها.
هذه الدلائل جميعها، أو كُرمى لطردها بعيدًا من حياة الكنيسة، أملى بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. هذا يعطينا أن نؤكّد، الآن، أنّ الآية، التي يشغلنا معناها هنا، تختصر ما قاله لهم جملةً، حرفًا تلو رفيقه. وعلى قسوتها الظاهرة وما قد تخلّفه من حزن ومرارة في قلوب قرّائها، يجب أن نراه يأمر بتدوينها فيما تعتمره غيرة شديدة على خلاصهم. لا يضربهم بما يقوله كما لو أنّه يحمل عصًا بيده. لو فعل، لبدا يدافع عن فكره الشخصيّ! ولقد قال لهم هم أنفسهم: “أما نحن، فلنا فكر المسيح” (2: 16). كلّ ما يعنيه أن يكون لهم “فكر واحد” (1: 10) يأتون منه في حياتهم معًا. كلّ ما يعنيه أن يعدّهم الله الآب من مبارَكيه (متّى 25: 34). يذكّر باللعنة إنّما في سياق رجاء تجاوز ما يمكن أن يُسقطها على رؤسهم. ما قاله لهم عن الأمور المشوَّهة، إنّما قاله بتفصيل ظاهر. أمّا الآن، أي قَبْلَ أن يدفع رسالته إلى عيونهم، فيردّد، بقسوة مبرَّرة، أنّ الحياة الكنسيّة لا تحتمل مزاحًا، لا تقبل عرجًا بين الجانبين. إنّها حياة جِدّيّة نخطوها، يومًا فيومًا، بإخلاص كلّيّ، على ضوء كلمة الحياة، لنرجو البركة. مَنْ “صار لعنةً لأجلنا” (غلاطية 3: 13)، لا يريدنا ملعونين، لا اليوم ولا غدًا. لقد حمل لعنتنا. وكفى بهذا بركةً نرجوها أبدًا!
لربّما أجمل ما في الآيات الإنجيليّة أنّها مفتوحة على الملأ. قال بولس ما قاله إلى أهل كورنثوس. ولم تُسجَّل لنا نتيجة ما قاله. هل هذا يعني أنّنا موجودون ضمنًا في كلماته؟ لا يمكن أن يعني الأمر سوى ذلك. أجل، نحن موجودون في كلّ كلمة قالها، في كلّ رجاء أطلقه، في كلّ تعب بذله، في كلّ توق ودمعة وابتسامة. كلّ ما قاله مرآة حياتنا. لنا يقول أيضًا: تجنّبوا اللعنة. لنا يقولها خصوصًا. يقول: “إيّاكم أن تسقطوا في تهاون لا يبرَّر. إيّاكم أن تركنوا إلى رحمة الله من دون أن ترحموا أنفسكم بطاعته. الله يحبّكم. وكلّ حياتكم الجديدة أن تحبّوه. هذا ينجّيكم من اللعنة. هذا وحده. لا تقولوا: غدًا نفعل ما علينا فعله. إن أجّلتم إلى الغد ما يبنيكم قاماتٍ من مجد، فيسهزأ غدكم بأمسكم! “ماران أتا” (يا ربّ، تعال). افعلوا ما ينبغي لكم فعله، الآن. حياتكم يوم. فأحبّوا الربّ اليوم. هذا أقوله، لأنّي أحبّ الربّ الذي يحبّكم، الذي أراه فيكم. إنّي أرى الله يفتح يديه، ليستقبلكم في حضنه الأبويّ. فعيشوا حياتكم عدوًا نحوه”.
إن أحببنا الربّ الآن، يكون لنا نصيب في: “ولن يكون لعنٌ بعد الآن” (رؤيا يوحنّا 22: 3).