رسالة ثانية إلى أسقف

mjoa Thursday February 13, 2014 98

سيدي، اليوم يجب أن يطمئن قارئي إلى هويتك. يطالعني فضوليون وينبغي أن أقيم لهم حساباً. فبادئ بدء لا مفر من تذكرتك أني أديبٌ أو أني أتأدب هنا، ولذا أتيت أنت صورةً أدبيةً. أنت، جملةً، صنيعتي الأدبية. ولكني لا أتعاطى الأدب من أجل نفسه. وفي التمثال الذي أصوغ أود أن تتعرف ملامحك.

أنا أهوى الجمال لكوني محباً لله. لهذا تؤذيني القباحات التي جعلتها في لوحتي. ولكني رأيتها لأني مضطر أن أشبِّهك “بأسقف نفوسنا العظيم”. ما ظلمتك إذا وجدت في لوحتي خطوطاً انطبقت عليك. حق حقيقتك عليك إلاَّ تغفل عما شملك من وصف لئلا تكون قد ضيَّعت وقتي عليَّ وأعرضت عن فرصةٍ نادرةٍ تتعرى فيها أمام عينيك.

أمَّا بعد، فقد أصابك ذهولٌ لأني بحثت في قضايا العائلة في صحيفةٍ سيارة. أنا أخشى يا سيدي أن مَن يدعونا ألاَّ نغسل الملابس القذرة أمام الناس يريد أن تبقى الملابس قذرةً. يشكِّكُه النشر ولا تشكِّكُه القذارة.

ثم هل لعائلتنا لسان حالٍ نكتب فيه؟ ولو كان لها ذلك فهل تسمح للأبناء أن يتحدثوا وأن يشتكوا أم أن عليهم أن يتألموا ويعبُّوا ألمهم صابرين؟ الكلمةُ وقفٌ على الأساقفة وعلى الوجهاء الذين تسمح لهم أن يؤنبوك، فبينك وبينهم حلف. ولكن الأصاغر مثلي عليهم فقط أن يطيعوا، فإنهم بذلك يتقدسون. وإن غيرتك على الصغار وفضائلهم لعظيمة. أنت تجيز للصغار الغباوة.

نعم أنا أكتب في أمور الكنيسة للناس جميعاً؛ لأن الكنيسةَ قلبُ الكون؛ لأن أزمتها الدنيا وانفراجها سلامة للعالم.

ثم واحدٌ تعجَّب أني وجَّهتُ إليك رسالتي عند هبوب العاصفة في بيتنا.

متى تهدأ العاصفة؟ في موضعٍ في الإنجيل قيل إن الرياح سكتت لمَّا أُوقظ يسوع في السفينة. هل دعوت أنت وأقرانُك المسيحَ لتجعلوه سيِّد السفينة؟

العالم كله يا صاحب السيادة، دميةُ شيطانٍ والعاصفة قائمةٌ إلى الأبد. وإنها اليوم فيك. أمَّا أنا فأكتب إليك لكوني في صفاءٍ راجياً أن توبِّخني إذا ما خضعت للهوى. “إن الحقيقةَ ليست لزمن آتٍ. الحقيقةُ لا يسعها الانتظار“. بيني وبينك هي الصلة.

أنا لا أخاف على شيء؛ لأني لا أملك شيئاً، ولست طامعاً في شيء. هذه حقيقتي وأنت صديقي إذا قبلتها. وحسبي رضاء الله واستغفاره إن أنا زللتُ. أنا مؤمنٌ ولذلك أتكلم. الحياء والانزواء طبيعتي، ولكني لا أستطيع الصمت الآن ولا غداً، فقد وُضِعَ النير عليَّ وأطعمني الله كتاباً. أكله جوفي وملأ عظامي كلها. وأنا مضطرٌ على إذاعته لئلا أموت. لا أقدر أن أختار بين الكلمة والخَرَس، فإذا “لم أتكلم منذراً المنافق بشِّر طريقه ليحيا، فذلك المنافق يموت في إثمه”. أنا كنت أود أن أقضي حياةَ ترفٍ واسترخاء، ولكني عاجزٌ عن ذلك. لست أنا سيد المخاض الذي يحل بي. لست أنا الذي وضعت المسيحَ في جوفي ولست حراً أن ألده أو لا ألده في الناس وأنا في وجعٍ حتى ينطلق.

بعد هذا لا معنى لِما يُقال حولك من إني عنيفٌ.

متى كان الحقُ طلياً؟ أتدعوني أن أكون فاتر الدعوة؟ إذن يتقيئني ربك من فمه. وما كانت انتفاضتي سوى وليد تلك المحبة الأولى التي جمعتنا والتي “تجعلنا أن نريد الإنسان الآخر ينبوع غنىً لا ينقضي”.

أنا أحبك سيدي. لذا أكره سيئاتك. أقسو عليك حتى لا يبقى فيك سوءٌ؛ لأني أريدك أن تبني التاريخ، أن تتعملق لتدرك ذاك الذي تصاعد من بعد قيامته حتى الجلوس عن يمين العظمة. أريد لك العظمةَ الحق؛ لأني أعرف الكنيسةَ مكانُ التجليات، منطلق الخلق والفتح المبين.

عما تحاسبني أنت؟ تحاسبني أني ذو رؤية، وأني أريدك على مدى الرؤية؟

أجل أرى الكنيسةَ دائماً كبيرة، أراها “السيدة المصطفاة”، وأُحب أبناءها في الحق  “لأجل الحق الذي يثبت فينا”. لذلك لا أطيق زيغانكَ عن هذا الذي يجمعنا إليها، عما يبرر وحدة قيام مسئوليتك. شراكتنا أنا وأنت في الإخلاص “للذي أحبنا وأسلم نفسه عنَّا”. فإذا بلغت أنت من الغفلة ما يجعلك عن مسئوليتك غريباً أتريدني أن أُداعبك؟ أفلا أكون قد خرجت عن الوفاء الذي يفرض علينا ألاَّ “نطلب مجداً بعضنا من بعض”؟ لا أنا لست مستعداً اليوم ولا غداً أن أسكت عن الفساد الذي قد يدُبُّ فيك لتتأمل نفسك تأملَ الغانيةِ أمام المرآة وتُعجبُ بملامحَ ليست على القدر الذي تظن من البهاء.

حَطِّم المرآةَ. فعلى قدر معاشرتك المعلم تصبح على صورته. هذه قضية محاكاة. عند ذاك لا يهمك أن تبقى متمطرناً. تكون قد تجاوزت أدب المظاهر. إن أنت صرت في الأعماق يكون هاجسك كيف تصير إلى القداسة. عند ذاك فقط تكون قد بلغت قامة الأسقفية.

 

 المطران جورج خضر
نقلاً عن: حديث الأحد – النهار – الأحد 18 مايو / أيار 1969م

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share