الوحدة والحقّ!

mjoa Tuesday April 1, 2014 114

الوحدة، في السّياسة، تقوم على الاتّفاق، والوحدة، في الكنيسة، تقوم على الحقّ. فأمّا الاتّفاق فعلى تلاقي المصالح، وأمّا الحقّ فعلى استقامة الرّأي. في السّياسة، الاتّفاق هو بين جماعة وأخرى. في الكنيسة، الحقّ هو انتماء إلى مسيح الرّبّ. لذا، الوحدة، في السّياسة، تراكم أعداد، فيما الوحدة، في الكنيسة، تملّؤ من روح الرّبّ. السّياسة لا وجود لها إلاّ بالنّاس. أمّا الكنيسة فوجودها منوطٌ بالسّيّد. السّياسة الواحدة من اتّحاد النّاس. وحدة الكنيسة من كون المسيح واحدًا. النّاس قُلَّب، وبالأحرى باطنيّون، لخطيئيّتهم، لذا وحدة السّياسة لا ثبات فيها وهي ظرفيّة. أمّا المسيح فإيّاه أبدًا، لذا وحدة الكنيسة ثابتة دائمة وغير قابلة للفكاك. النّاس يصنعون خطًّا سياسيًّا ظاهره واحد، فيما ينتمون إلى الكنيسة الواحدة أو لا ينتمون. طبعًا، ليست الكنيسة من دون البشر. ولكنْ، إنسان واحد يمكن أن تتجلّى فيه وحدة الكنيسة، ولا تتجلّى في مئة وألف وربوة! الأمر رهن بسكنى الرّوح القدس في الواحد أو الكثرة. هكذا تتعمّم الكنيسة، كواحدة، في جماعة هنا، وأخرى هناك، وثالثة هنالك. كما نتكلّم على الكنيسة في هذا المكان، أو ذاك، أو ذلك. هذا مردّه إلى أنّ إيمان هذه الجماعة، ومسيح هذه الجماعة، وروح هذه الجماعة، هو إيّاه إيمان ومسيح وروح تلك الجماعة، وهو إيّاه الإيمان الّذي سُلِّم مرّة للقدّيسين، بالمسيح ابن الله الوحيد، وفي الرّوح القدس الّذي انسكب في العنصرة.

     قد يحسب الكثيرون أنّ الكنيسة هي أنا وأنت وهو وهي، أي أنّها الجماعة مرتبطةً، فيما بينها، بشعار واحد وفكر واحد وعبادة واحدة ومؤسّسة واحدة وشَرْع واحد… لا شكّ أنّ للكنيسة وجهًا فكريًّا وآخر اجتماعيًّا وآخر أخلاقيًّا وآخر طقوسيًّا وآخر تنظيميًّا… وهذا أمر بديهيّ، لأنّ الكنيسة، طبيعتُها كطبيعة مسيح الرّبّ، إلهيّة بشريّة. فإذا كان ما هو إلهيّ بحت لا يصنع الكنيسة، فما هو بشريّ بحت، أيضًا، لا يصنع الكنيسة! كذلك، لا ما هو إلهيّ بالاسم، ولا ما هو بشريّ بالشّكل، يصنع الكنيسة! المبتغى أن يكون الإلهيّ، أي الرّوحيّ، متجسِّدًا، أي متجلِّيًا، في ما هو للبشر! على أنّ الرّوحيّ، في هذه المنظومة، هو الثّابت الضّامن لوجود الكنيسة واستمرارها، فيما البشريّ هو المتقبِّل، ولو المتقلقل، الّذي يُفترض بنا أن نعمل جاهدين، ثابتين، كلٌّ في نفسه، ومعًا في الجماعة، على ضبطه وإخضاعه لما هو روحيّ! والبشريّ متقلقل بسبب الضّعف. يَشرد، إذا كان مستقيمًا، رغمًا عنه لا عن سابق تصوّر وتصميم؛ ما يَفترض أن يكون ابن الكنيسة متدرّعًا بالإيمان والأمانة وروح التّوبة والعزم والإرادة الثّابتة، مِن جهة العلاقة بمسيح الرّبّ وروحه القدّوس. أمّا الإيمان الحقّ والأمانة الصّادقة والعزم الأكيد والإرادة الثّابتة والتّوبة الدّؤوب، فلا تقبل القِسمة! يمرّ الإنسان بتجارب، يصعد، ينزل، لا شكّ في ذلك، ويحتاج إلى جهاد وتعب ونعمة من فوق، ليصمد ويتثبّت في الإيمان الفاعل بالمحبّة، ولكنْ لا ما يبرِّر لديه وجدانًا يجمع ما بين الإيمان واللاإيمان، والأمانة والنّقص في الأمانة، والعزم والوهن، والإرادة الثّابتة والمتردِّدة والتّوبة واللاّتوبة! ثمّة كلّيّة داخليّة، في الموقف الكيانيّ، لا مناص منها! مَن ليس معي فهو عليّ! وإلاّ يوجد الإنسان خارج الكنيسة، ولو حَسِب نفسه، أو حسبه الآخرون، فيها ومنها! هناك حقيقة موضوعيّة، لا تخضع لتصنيف البشر؛ وهذه الحقيقة وحدها تحدّد ما إذا كان أحدٌ ينتمي إلى الكنيسة الواحدة بالرّوح والحقّ، أو لا ينتمي إليها! وحدهم، في هذا السّياق، مَن يسكن فيهم روح الله، يعرفون ذلك ويميِّزونه. “الرّوحيّ يَحكم في كلّ شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد” (1 كورنثوس 2: 15)!

     من هذا المنطلق، لا “وحدة” المؤسّسة المسمّاة “كنسيّة” كافية لإحقاق وحدة الكنيسة، أو التّعبير عنها، ولا “وحدة” الطّائفة. المهمّ المضمون الكنسيّ، أن نكون في استقامة الرّأي، في الرّوح والحقّ. هذا، وحده، إذا ما توفّر، يعطي المؤسّسة أو الطّائفة، أن تكون مطرح تجلٍّ محسوس لوحدة الكنيسة! لذا، الإيمان القويم الفاعل بالمحبّة هو بؤرة الضّوء في حياتنا في المسيح، وكلّ ما عداه، في المنظومة الكنسيّة، يأتي منه، من جهة التّنظيم والهيكليّة والطّقس، لأنّه لا يمكن الجماعة أن تلتقي في الفوضى، ولا الإيمان الحيّ أن يتفعّل خارج حدود اللّياقة والتّرتيب!

     الكرسيّ الأنطاكيّ، في تاريخه، من الأزمنة الأولى، تعرّض للانقسام على نفسه، مرّات، كما تعرّض، خلال المائة العام الأخيرة، إلى تجارب انشقاقيّة عدّة؛ ومع ذلك استمرّت الكنيسة فيه! طالما هناك قطيع صغير، مهما كان حجمه، متمسِّك بالإيمان القويم، فالكرسيّ الأنطاكيّ باقٍ قائمًا، بنعمة الله، ولا خوف عليه، مهما عنفت العواصف الّتي تضرب الكنيسة فيه، سواء من خارجها أم من داخلها! روح الرّبّ ضامنها وحافظها إلى قيام السّاعة، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها!

     أقول قولي هذا، وفي ذهني مَن يلمِّحون ويلوِّحون، وحتّى يهدِّدون بالانشقاق، إذا لم تماشهم الكنيسة المقدّسة في تطلّعاتهم الملتوية ومراميهم المشبوهة! ليس عندنا شيء للبيع! همّ الكنيسة ليس إرضاء النّاس، في أهوائهم، بل رعايتهم على حقّ الإنجيل! وحدها استقامة الرّأي تجمعنا! الباقي لا قيمة له! تعمل الكنيسة ما في وسعها على ألاّ يضيع خروف واحد من خراف المسيح! همّها أن تستردّه حتّى نفرح به ويفرح الملائكة معنا! ولكنْ، الابتزاز ممنوع ولا مساومة على الإيمان القويم! لا يظنّن أحدٌ أنّه إذا أصرّ على مفسدته وهدَّد سوف تنصاع له الكنيسة! المتمسّكون باستقامة الرّأي، في هذا الكرسي المقدّس، ليسوا قليلين، وإيمانهم القويم أثمن عندهم من حياتهم! لذلك لا مساومة، في الكنيسة، على الأمانة والاستقامة والنّقاوة! فإن تمادى قوم في غيّهم إلى المنتهى ولمّا يرعووا، رغم التّنبيه والصّبر والرّحمة، فليس للكنيسة سوى أن تعزلهم قانونًا وتبكيهم وتكتفي بالصّلاة من أجلهم عساهم يتوبون، لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون، ويقطعون أنفسهم عن حقّ الإنجيل، ومن ثمّ عن جسد المسيح الواحد، ويستقرّون في جوف التّنّين!

     أمّا القطيع الصّغير، فشيمته التّمسّك بوحدة الكنيسة، بالأمانة الكاملة غير المنقوصة لمسيح الرّبّ! “إن كنتُ، بعدُ، أُرضي النّاس لست عبدًا للمسيح”. المفاسد يجب أن تجتثّها الكنيسة اجتثاثًا لأنّه لا شركة للنّور مع الظّلمة ولا لله مع بليعال! لا مساومة على استقامة الرّأي! لقد طال الزّمن الّذي اعتدنا فيه التّعايش مع الفساد متذرِّعين بالمحافظة على وحدة الكنيسة! سياسة غضّ الطّرف عن المفاسد، طالما كانت تُتعاطى في الخفية، ضربٌ للوجدان الكنسيّ وتمزيقٌ للنسيج الأسراريّ وإفراغٌ للكنيسة من مضمونها الرّوحيّ وتحويلٌ للحياة الكنسيّة من خطّ الخلاص إلى الممارسة الإيهاميّة النّفسيّة الشّيطانيّة! لا فقط لا نحمي المؤمنين من العثرة إذا ما تجاهلنا المفاسد في الكنيسة ولمّا نتصدّ لها، بل نساهم في ترسيخ اللاّحسّ واللاّمبالاة فيما بينهم من جهة الكنيسة! مَن نعرف خطاياهم ولا نعينهم عليها يطلب السّيّد دمَهم من أيدينا (حزقيال)! النّاس، في كلّ حال، يعرفون أكثر بكثير ممّا نتصوّر! نحن شعب فضوليّ ويهوى تناقل الأخبار والإشاعات والظّنون والحكايات والاختلاقات! لذلك يتوقّع منّا أن نُصلح العَطَب ليُبنى، لا أن ننام عنه! كفانا، إذًا، وهمًا وادّعاء وتسييبًا لشعب الله وحقّ الإنجيل، ومن ثمّ ضربًا وتفريطًا بوحدة الكنيسة الحقّ! لقد بلغ السّيل الذُّرى والدّينونة على الأبواب!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share