تذكار القدّيس البارّ دانيال العمودي العجائبيّ (+ 493م)

mjoa Monday December 11, 2023 270

daniel_the_styliteوُلد القدّيس دانيال العموديّ سنة 409 م. ترهّب في سِنّ الثانية عشرة. أمضى خمسة وعشرين عامًا في الحياة الديريّة. تنقّل بين أبرز نسّاك زمانه على مدى خمس سنوات. في سِنّ الثانية والأربعين استقرّ في القسطنطينية. أقام حبيسًا في هيكل سابق للأوثان تسع سنوات. في سِنّ الحادية والخمسين، صعِد على العمود. عاش عموديًّا بقيّة حياته. رقَد في الرّابعة والثمانين وثلاثة أشهر سنة 492 م.
اسم أبيه إيليّا واسم أمّه مرتا. هذان كانا من قرية صغيرة تدعى ميراثا في أرض سميساط من بلاد ما بين النهرين. كان أبواه سريانيّين وكانت أمّه عاقرًا. زوجها والعشيرة كانوا يعيّرونها ومرتا كانت في مرارة النفس كلّ يوم من أيّام عقرها. مرّة، في نصف اللّيل، خرجت من الدار وزوجُها نائم، فبسطت ذراعيها إلى السماء وصلّت بحرارة ومرارة قلب ودموع: ” أيّها الرّب يسوع المسيح، يا طويل الأناة على خطايا الناس. يا من خلق المرأة، في البدء، لتكاثر جنس البشر، أنت ارفع عنّي العار وامنحني ثمرة البطن لأقدّمه إليك، أنت سيّد الخليقة”. ولم تنقضِ أيّام كثيرة حتّى حبلت مرتا وأنجبت، في زمن الولادة، صبيًّا هو قدّيسنا، صاحب هذه السيرة.
لا نعرف بأيّ اسم كان أبواه يدعوانه إلى سِنّ الخامسة. في الخامسة أخذاه إلى دير في جوار القرية وقرّبا عنه تقدمات من ثمار الحقل. سأل رئيس الدير والدَيه: “ما اسم الصبيّ؟ فذكرا اسمًا لم يحفظه التاريخ، فلم يرُق له بل قال: “لا ، بل يُسمّى بالاسم الذي سوف يكشفه الله لنا”. على الأثر وجّه الرّئيس كلامه إلى الصبيّ قائلًا: “اذهب يا بنيّ إلى الطاولة، هناك، وأتني بكتاب!” الطاولة كانت مقابل الهيكل وكانت عليها كتب مختلفة لاستعمال الرّهبان. فركض الصبي وأمسك بأحد الكتب وعاد فإذا به نبوءة دانيال فدُعي الصبيّ باسم نبيّ الله .
ورغب والدا دانيال إلى الرّئيس أن يقيم الصبيّ عنده لأنّه نذير للرّب فلم يشأ. ولعلّ والديه أحبّا أن يفعلا بابنهما ما فعلته أمّ صموئيل بولدها (صموئيل 1 -2 )، ولكن لم تكن ساعته قد حانت بعد.
عاش الصبيّ في كنف والديه إلى سِنّ الثانية عشرة. فلمّا سمع أمّه تقول له مرّة: “يا بُنيّ، أنت نذير للرّب. أنا نذرتك إليه”، قام فخرج من القرية دون أن يعلم أحد بأمره، وتوجّه إلى دير يبعد عن القرية مسافة ستّة عشر كيلومترًا، فلمّا فتحوا له ووقف أمام رئيس الدير، ارتمى عند قدميه ورجاه أن يقبله في عداد رهبانه. كان في الدير خمسون راهبًا. فتحفّظ الرئيس لأنّ دانيال كان صغير السِنّ ولا طاقة له على احتمال قسوة الحياة الرّهبانية. وإذ حاول صرفه واعدًا إياه بأن يقبله في المستقبل متى اشتّد عوده، أجاب دانيال بإصرار: “خير لي أن أموت، يا أبتي، وأنا أكابد أتعاب الرّهبنة من أن أفارق الدير”. ولمّا لم يجد رئيس الدير سبيلًا إلى إقناع الصبيّ بالعودة إلى بيته ولمَس فيه رغبة جامحة لاقتبال الحياة الملائكيّة، رضخ وقبِله.
ولم يطل الزمان حتّى اكتشف أبواه أنّه في الدير، فماذا كان ردّ فعلهما؟ فرحا جدًّا وشكرا لله على تحنّنه على الصبيّ وعليهما ورجيا رئيس الدير أن يُلبسه ثوب الرّهبنة بسرعة لأنّه لم يكن قد فعل إلى ذلك الوقت. فما كان من الرئيس سوى أن أرسل في طلب دانيال وسأله إذا كان يرغب في لبس الثوب الرّهباني أم يفضّل تأجيل ذلك إلى ما بعد، فأجاب الصبيّ : “اليوم قبل الغد يا أبتي!”. لكنّي أخاف عليك يا بنيّ لأن نظام حياتنا قاسٍ!”. أنا أعلم أنّي صغير السِنّ وضعيف لكنّي أثق بالله وبصلواتك أنّ من يقبل نيّاتنا هو يقوينا !”.
ولبس دانيال ثوب الرّهبنة وانصرف والداه بعدما أوصاهما رئيس الدير بألا يزوراه إلّا قليلًا لئلّا يعثراه ويجرحا سعيَه الرهباني من حيث لا يدريان لأنّ الشيطان يستغلّ زيارات الأهل ليشوّق الرّاهب، وهو في التّعب والجهاد، للعودة إلى العالم.
دانيال راهبًا
أحرَزَ دانيال تقدّمًا كبيرًا في أتعاب النسك والصلاة. وكان رئيس الدير شغوفًا به لا يكفّ عن مدحه. والرّهبان أيضًا كانوا يتعجّبون ويتحّيرون وربّما يغارون. كلّ هذا سبّب لدانيال ضيقًا كبيرًا، ففكّر بمغادرة الدير وزيارة المدينة المقدّسة، أورشليم، وكذلك القدّيس سمعان العموديّ الذي كان خبَره على كلّ شفة ولسان. دانيال، من ناحيته، كان يشعر برغبة جامحة في نفسه إلى السير في خطى هذا القدّيس العظيم. ولكن لم يشأ رئيس الدير أن يعطي دانيال البركة لإتمام قصده، فسكتَ وأسلم نفسه لله قائلًا إذا شاء الرب أن أخرج إلى هناك فهو يجد الطريقة لتحقيق ذلك. ولم يمضِ وقت طويل حتّى استدعى رئيس أساقفة أنطاكية كافّة رؤساء الأديرة في الكرسيّ الأنطاكيّ إليه للبحث في أمر يهمّهم. خرج رؤساء أديار بلاد ما بين النهرين إلى أنطاكية، لهذا الغرض، وكان بيتهم رئيس الدير الذي كان دانيال المغبوط نازلًا فيه. ولحُسن التدبير الإلهيّ أنّ رئيس الدير اصطحب دانيال مرافقًا له في سفره. اجتمع رؤساء الأديرة إلى رئيس أساقفة أنطاكية وحقّقوا الغاية التي دُعوا من أجلها في وقت قصير. على الأثر قفل الجميع عائدين إلى ديره.
أمّا رؤساء أديرة ما بين النهرين فعادوا معًا. وفي الطريق نزلوا في قرية اسمها تلانيسي كان فيها دير كبير جدًّا. الرّهبان المسافرون ينزلون عادة في الأديرة التي يصادفونها. وكان القدّيس سمعان العموديّ قد استقرّ في تلاسيني بعضًا من الوقت، وفيها تدّرب على النسك. وكان موضع عموده بعيدًا عن المكان. وفي تلك الليلة التي نزل فيها القرية رؤساء “أديرة ما بين النهرين”، عرض الرّهبان المحلّيون لأخبار القدّيس سمعان، فما كان من الرّؤساء الزائرين سوى أن استغربوا واستهجنوا طريقة القدّيس سمعان وتكّلموا عليه بالسوء معتبرين نُسكه ضربًا من ضروب الادّعاء والمجد الباطل. ولكن أقنع رهبان الدير زوّارهم بأن يذهبو غدًا إلى القدّيس سمعان وينظروا وبعد ذلك يحكمون.
خرج رؤساء الأديرة ومرافقوهم، وفي اليوم التالي، لزيارة القدّيس سمعان على عموده. فما إن وصلوا حتّى لاحظهم القدّيس فأشار إلى بعض تلاميذه أن يدنوا السلّم من العمود لكي يصعد إليه الشيوخ الزائرون لأنّه أراد أن يقبّلهم قبلة المحبّة. كان الوقت صيفًا والحرّ شديدًا والمكان قفرًا، فتعجّب الشيوخ لا سيّما وقد رأوا صبر القدّيس وترحيبه بالغرباء. لكنّهم لم يشاؤوا أن يصعدوا إليه لأنّ قلوبهم نخستهم وشعروا بأنّهم أساؤوا لأنّهم ظنّوا في القدّيس سوءًا، فقالوا: ” كيف نصعد إلى رجل الله لنقبّله بشفاهنا التي تكلّمت عليه بالسوء؟!” لذلك تذرّع بعضهم بالشيخوخة وبعضهم بالمرض وبعضهم بالضعف ولم يصعد إليه أحد منهم. أمّا دانيال فتوسّل إلى رئيسه أن يسمح له بالتبرّك من القدّيس، فسمَحَ له. فلمّا صعد إليه باركه سمعان وسأله: “ما اسمك؟ فأجاب: “دانيال!” فقال له: “كن رجلًا يا دانيال! تقوَّ واحتمل فإنّ مشقّات كثيرة بانتظارك. لكنّي أثق بالله الذي أنا خادمه أنه سوف يقويّك ويكون رفيق دربك!” ثمّ وضَع يده على رأسه وصلّى وباركه وصرفه.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share