الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه..” (عبرانيين 1 : 1 – 2)
وكلام الابن نعرفه بالروح القدس، الذي يعطينا فهم تقليد الكنيسة المكتوب (الكتاب المقدس)، والشفهي ( شهادة حياة الكنيسة)
… نورد فيما يلي أسبوعياً قبساتٍ من تجليات الرب في رعاياه الدمشقية (في أبرشية دمشق)، تعكسها لنا شهاداتٌ وعظاتٌ لآبائنا خدام الكلمة، الكارزين بالقائم من الموت لأجل خلاص العالم
عظة هذا الأسبوع لقدس الأرشمندريت ابراهيم داود
فليسد المثل الأعلى للإيمان
في الأحد الثاني للفصح يظهر الربّ يسوع مرّة ثانية للتلاميذ في العلّية، ولكن هذه المرّة مع توما أيضاً. لم يكن إيمان توما أضعف من إيمان التلاميذ. فالتلاميذ العشرة آنذاك آمنوا حين ظهر لهم يسوع مساء أحد الفصح. ولكن لأن توما اشتهى ما رأوه وأراد أن يلمس ما لمسوه جاء يسوع في الأحد الثاني والأبواب مغلقة وظهر لهم ولتوما معهم، وقال له “عاينْ” و”ألمسْ” ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً.
إذاً دبرت العناية الإلهية الأمور هكذا، بأن لا يكون القديس توما مع الرسل الآخرين في اليوم الأول للقيامة، عندما حضر إليهم الرب القائم. وعندما قال له الرسل <<قد رأينا الرب!>> ذاك لم يصدِّق، وطلب براهين.
بعد ثمانية أيام عندما كان الرسل مجتمعين أيضاً ومعهم توما، حضر الرب ثانية وعندها توما صرخ وقال: “ربي وإلهي”. نعم يا أحباء لقد كان غياب توما في مساء أحد الفصح حين ظهر الربّ للتلاميذ تدبيراً إلهيّاً لكيما بشكّ توما وظهور يسوع له واللمس والصرخة ربّي وإلهي يزيل السيّد شكوكنا.
واحدة من البراهين العظيمة والشهادات عن القيامة الإلهية هي برهان القديس توما.
توما لم يكن جاحداً، لم يكن من أولئك الذين لا يريدون أن يؤمنوا. يريد أن يرى، أن يلمس لكي يؤمن. فالجحود شيء والتفتيش الصريح أمر آخر. الجحود يفترض المنطق بدون أن يستند عليه، ينطلق ليس من أجل الإيمان ولكن من أجل الجحود، يفتش عن دعائم ومبررات لجحوده. بينما التفتيش الصريح هو ميل طبيعي للنفس البشرية.
يطلب توما البراهين ليس لكي لا يؤمن، لكن لكي يؤمن، نيته طاهرة ودوافعه مُخلصة. لهذا حالما يراه لم يعد ينشغل بأمور أخرى، ولا يفحصه أكثر، يتقدم بعيداً من ذلك الذي يراه إلى الذي لا يراه، يقفز من المنظور إلى اللامنظور واللامحسوس. ويعبر ليس عن إيمان بسيط، لكن عن عقيدة عميقة، وعن اعتراف حقيقي. يرى الرب ويعترف ويعلن عن ألوهيته: “ربي وإلهي”. الصعب التصديق يشهر باعتراف الإيمان.
ردة الفعل هذه لا تبقى في مجال الفكر، لكن مثل التفتيش تقود إلى اختبار مبارك للدخول الكلي في حياة الكنيسة، تعطي النتيجة التي أعطتها ردة فعل الرسول توما. التفتيشات عندما يكون لديها الصراحة والجرأة فهي مباركة. الجرأة لا تعني الوقاحة لكن العزم والشجاعة في رفع نير وصايا المسيح الخفيف. إنها نكران الذات الذي يشفي الذهن من الأنانية، والقوة الروحية التي تغلب المنطق الجسداني.
يتراءى السيد ويقول لتوما: “هات اصبعك الى هنا فانظر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل كن مؤمناً”. لماذا هذا التوبيخ والرسول لم يطلب تيقناً كبيراً يفوق يقين التلاميذ؟ غير انه لما سمع الرب سماعاً ولم يقل الكتاب انه لمس اليدين والجنب أجاب: “ربي وإلهي”، مقدماً شهادةً صريحة.
يقدّم لنا كتاب البنديكستاريون أهمّيّة ما قام به القدّيس الرسول من أجل التصديق بقيامة الربّ يسوع. ففي غروب الأحد الجديد، ترتّل الكنيسة: “إنّ التلاميذ لمّا كانوا مشكّكين وافى المخلّص لثمانية أيّام حيث كانوا مجتمعين وأعطاهم سلامًا وهتف بتوما: هلمَّ أيّها الرسول فتِّش الكفَّين اللتين بُجِّنت (دُقّت) فيهما المسامير. يا لطراَفةِ عدم تصديق توما الجميل إذ أقبل بقلوب المؤمنين إلى المعرفة وصرخ بخوف: ربّي وإلهي المجد لك”. في هذا النصّ يوجز البنديكستاريون أهمّ معاني قصّة توما مع قيامة السيّد: فتوما لم يؤمن بما أخبره إيّاه التلاميذ الآخرون من أنّهم شاهدوا الربّ وبأنّه قد قام من بين الأموات، فارتاب ارتيابًا “جميلاً” لأنّ هذا الارتياب كان من النوع الإيجابيّ، بمعنى أنّ توما كان يبحث عن المعرفة، وليس عن عدم التصديق مهما كانت البراهين، لم يكن موقف توما عنادًا لا رجوع عنه مهما كانت الحجج، بل كان موقفًا تائقا ًإلى الإيمان الراسخ، ومن هنا قول الصلاة أعلاه: “أقبل بقلوب المؤمنين إلى المعرفة”.
إن لوم السيد لتوما عنى ان هذا الرسول كان ينبغي ان يقبل شهادة الرسل. ولكن أتت شهادته خير تبيان على واقعية القيامة وعلى ان الذي مات هو إياه الذي قام ولسنا أمام شبح وما كان الرسل في حالة هلوسة طبيعية.
شكّ توما نقله إلى الحياة في المسيح عندما رأى ونحن استحققنا الطوبى لأننا نؤمن ولم نرَ. صحيح أننا لم نرَ ولكن عندنا الإنجيل ومعه سحابة من الشهود الذين عاشوا ويعيشون في المسيح وينيرون حياتهم وحياتنا بنوره. يبقى أنّها مسؤولية كلّ منّا أن يسعى، يقرأ الإنجيل، يصوم ويرتمي عند قدمي الربّ في كل مرة يحسّ بها في الشك صارخاً عليه “أنا أؤمن يا ربّ فأَعِن عدم إيماني”.
لقد كان يسوع هو المبادر لإزالة شكّ توما: “أيّها السيّد إنّك لم تهمل توما غارقًا في عمق الارتياب لكنّك بسطت راحتَيك لكي يفتّشهما” (سَحَر الأحد الجديد). لم يترك الربّ يسوع التلاميذ في شكّهم وارتيابهم، بل أتى إليهم ليريهم حقيقة قيامته، وليبعد عنهم الحزن: “إنّ المخلّص قد وقف بأحبّائه إذ كانوا مكتئبين وأقصى عنهم كلّ حزن بحضوره منهضًا إيّاهم ليرتكضوا بقيامته” (صلاة السَّحَر). ما زال الحزن سائدًا في عالمنا الغارق في هموم الحياة الدنيا، فليكن هذا العيد مناسبة لكي نفرح بالحياة الحقيقيّة التي وهبناها الربّ يسوع بقيامته من بين الأموات.
فلنجاهد حتى يسود المثل الأعلى للإيمان في فكرنا وحياتنا.
المسيح قام