سرّ القلب أعظم!
“شاء النّاس أم أبوا، سوف يأتي وقت يؤمن فيه الجميع، لأنّهم سيصلون إلى طريق مسدود والمسيح سيتدخّل”. هذا قول غير عاديّ تفوّه به إنسان غير عاديّ سكن فيه روح الله بصورة غير عاديّة، عنيت به الأب الشّيخ بائيسيوس الآثوسيّ!
كلّ خطيئة، كائنة ما كانت، ضلالاً في الفكر، أم عبثًا في السّيرة، تحمل في طيّاتها جحيمَها! ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد. لذا الخطيئة الّتي تُبعد عن الله هي نفسها تؤدِّب… منذ الآن! كيف تؤدّب؟ بالقلق،
بالألم، بالخوف، بالتّشويش، بالفراغ، بالشّعور بالحاجة المؤرقة إلى الهرب…! حياة المستسلِم للخطيئة هروب دائم! كلّ ما يتعاطاه يتعاطاه هروبًا! ولو لم يكن كذلك، في الظّاهر، بالضّرورة! الفلسفة والعِلم والفنّ والرّياضة والمال، وكذا الجنس والأكل والشّرب واللّباس والمقتنيات…
أمّا أرض المهارب بامتياز فالجسد والخيال! بالجسد يَطلب المرء أن يَنسى! يستهلكه ليستمتع! هذا لأنّه ليس كالمتعة مخدِّر، وليس كالخدَر مهرَب! أمّا الخيال فيعطيك الغور في عالم تصنعه ممّا ترغب وكما ترغب، هربًا إلى ما يشبه الفضاء الخارجيّ دون ما لواقع اللّحم والدّم! الجسد تعزية الخاطئ والخيال أفقه الإيهاميّ الرّغائبيّ! لولا الجسد والخيال لقضى الخاطئ أسًى ويأسًا! الهرب للخاطئ حاجة أحشائيّة!
لا حلّ لإشكالات الخاطئ طالما بقي مقيمًا في خطيئته! العالم، من ناحية، مطرحٌ لصراع الخطيئة بين النّاس، ومن ناحية أخرى، مجمعٌ لميراث الخطيئة مجبولة بالخيال، على رشَاشٍ من الحقّ كالملح! هذا يجعل الخطيئة تتفاقم وتتعاظم، ما يجعل القلق يشتدّ، والألم يتزايد والخوف يبلغ الهلع والتّشويش البلبلة الكاملة! وفيما يبدو للنّاظر كأنّ البشريّة استنفدتها الخطيئةُ وباتت برسم الانحلال والاضمحلال، نلقاها، في ضوء قولة الأب الشّيخ بائيسيوس الآثوسيّ، ترتدّ عن الخطيئة، أوّلاً لأنّها آلت بالبشريّة إلى الإفلاس، وما عاد في طاقة الإنسان أن يستردّ نفسه من الضّياع الّذي بلغه، وثانيًا لأنّ مسيح الرّبّ لا يغادر خليقته إلى لا رجعة، بل يستعيدها إذ يكون الإنسان قد بلغ السّأم واللاّمعنى واليأس من
نفسه في إمكان استعادة سلام نفسه!
هذا يبيِّن لما يترك الرّبّ الإله الخطيئة، لدى المعاند، غير التّائب، تتكثّف! الخطيئة ضرب من اللّعنة، لكنّها، بما تثيره من تداعيات في نفس الإنسان، تخضع لمسرى التّدمير الذّاتيّ! سبب ذلك، من جهة، طبيعة قلب الإنسان، ومن جهة أَولى، طبيعة قلب الله المحبّة! مهما كان حجم ضخّ الخطيئة في الكيان، فالقلب، بإزاء الألم الكبير، مهيّأ للفظ الخطيئة إلى خارج لأنّها ليست من طبيعته! قد يقيم القلب طويلاً في العجز، إلاّ أنّه لا يخلو، بالكامل، من الحسّ، ولو الضّئيل، بالأصالة! بكلامٍ أوضح، لا يوجد إنسان يريد أن يخطأ حقيقة إلى الله (القدّيس يوحنّا السّلّميّ)!
والقلب، في الضّيق، يصرخ شبهَ شلله، والرّبّ الإله يسمع صوت القلب المقموع العاجز الصّامت بخطيئة ذاته! “إلى الرّبّ صرخت في ضيقي فاستجاب لي” (مز 119 : 1). ما أتى مسيح الرّبّ إلى الأبرار لأنّه ليس بار ولا واحد، بل للخطأة! لا يحتاج الإنسان لأكثر من نأمة قلب، مهما خفتت، تجاه الله، ليبادر الرّبّ الإله إليه! عند ربّك، الألم موئل صليب الخلاص! سرّ القلب يستدعي سرّ الألم! لذا ليس المتألّم بعيدًا عن ربّه!
الّذي هو المحبّة، وقد عرف الصّليب في الجسد، يتماهى والمتألّم!
إذا كانت التّوبة هي اقتبال الألم/الصّليب من أجل المعلِّم، فالألم، خارج التّوبة، أرضُ الإتابة بامتياز، مهما تصحَّرت النّفس! من هنا القول: “توِّبني فأتوب لأنّك أنت الرّبّ إلهي… خزيتُ وخجلتُ لأنّي حملتُ عار صباي” (إرميا 31 : 18 -19)
ولكنْ، تستوقفني القولة السّيّديّة: “متى جاء ابن البشر فهل يجد الإيمان على الأرض”؟ للوهلة الأولى يبدو كأنّ في المعنى إيصادًا لباب الخلاص أو يكاد. فإذا كنّا لنقرأها في ضوء تأكيد الأب بائيسيوس فلربّما عَنَت القولة أنّ زمنًا يأتي يتفشّى فيه الضّلال بحيث يتعذّر، إلاّ على القلّة القليلة، أن تحفظ نفسها؛ ولكنْ، هذا إن دلّ على شبه العجز الكامل للبشريّة عن الاستجابة لدعوة الله إلى الإيمان بيسوع، فليس على عجز الله! أليس أنّ كلّ شيء مستطاع عند الله؟ وقبل ذلك، أليس أنّ الله يريد أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون؟ طبعًا، السّؤال حقّ: إذا لم يأت الإنسان إلى الخلاص بالإيمان فبمَ يأتي، إذا كان له أن يأتي؟
الجواب، في ضوء ما سبق أن أبنّا، هو الألم النّاجم عن الخطيئة! الخطيئة ليست من طبيعة الإنسان مهما انبثّت فيه! تأتي من إضلال استحال، في السّيرة، ضلالاً، وكأنّه من الطّبيعة، أو شبهُ طبيعة ثانية! الخروف الضّال جاء الرّاعي ليستردّه! على هذا يكون مآل الخطيئة طريقًا مسدودًا على فراغ وألم؛ ما يُصيِّر الإنسان، كما يبدو، مهيّئًا للخلاص إذا لم تهيِّئه التّوبة!
أنّةُ القلب تبلغ أذني العليّ فيبادر إلى انتشال مخلوقه من أسافل دركات الأرض! “نجّني من زلاّتي الخفيّة”! يومذاك تتجلّى محبّة الله بالكامل في الإنسان المقعَد في روحه! قم احمل نفسك وجسدك واذهب إلى بيتك!
البيت الّذي هو ربّنا إيّاه، لأن في المحبّة لا يسكن الحبيب إلاّ في الحبيب، وفيه وحده يستكين إلى الأبد!
خيار الإنسان، في ضوء ما تقدّم، ليس بين الإيمان وعدم الإيمان، أو بين التّوبة وعدم التّوبة؛ خياره هو، في الحقّ، بين أن يكابد الألم، إراديًّا، في عالم الخطيئة، بالإيمان والتّوبة، توقًا إلى ربّه، فيتملأ من الله المحبّة، وأن يستغرق في الخطيئة فيتكثّف فيه الألم والفراغ، فيصرخ ربّه في القلب، والقلب، مهما ضلّ، يبقى إلى ربّه، ولو ضئيلاً، وإلاّ يفنى، فيبادر سيِّدُه إليه ليطبِّبه ويُفعمه حبًّا من ذاته! في أشرّ الخطأة تتجلّى أعظم محبّة الله لأنّها بلا حدود! أليس أنّ الملائكة تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة؟! أما التّوبة فأن تعرف، في عمق كيانك، أنّ الخطيئة لا تجدي! ثمّة قومٌ توبتهم أيسر من توبة سواهم، وثمّة مَن خطاياهم أحيل وأصلد وأعقد! حتّى الّذين يرتحلون عن ربّهم إلى بلاد بعيدة، تواكبهم رحمة ربّهم حتّى إلى الجحيم، ولا تغادرهم ولا تهدأ ولا تستكين حتّى تُفرغ المعاناةُ الخطيئةَ، في كلّ نفس، من كلّ ألق، وحتّى يتوب القلب إلى ربّه مهما بات، في انشداده إلى فوقٍ، فتيلاً مدخّنًا!
سألت رجلاً، في زمن الاتّحاد السّوفيتيّ، مرّة، وكنت في زيارة، إلى هناك: أتؤمن بابن الله؟ فبمَ أجاب؟ قال: أنا لي قلب! هذا يعادل القول بالإيمان وأكثر! كلّ إنسان قلب مهما شاغبتْ عليه نفسُه وتاريخُه وزمانُه وعالمه! والقلب، في نهاية المطاف، يعرف مضرّة نفسه، ولا قرار له إلاّ في الله، لأنّ الله سكناه، بحسب الطّبيعة، مهما اشتدّت الضّلالات عليه!
القلب لا يمكن أن يكون إلاّ إلى القلب! هنا يكمن سرّ الوجود! وهنا يتجلّى سرّ الخلاص.
هذا كلام أسوقه رأيًا ولكنْ على بيِّنة الرّوح المتجلّي في الأب بائيسيوس. والحقيقة، حتّى من دون القولة الّتي انطلقنا منها، في مطلع حديثنا، أنّ حِسّ عشير الله، مهما كان هذا العشيرُ قصيرَ القامة، هو أنّ الله أكبر في المحبّة، وكمحبّة، من أن يدع خطيئةً، مهما عظمت، تخطف أحدًا من أحبّة الآب السّماويّ (يوحنّا 10 : 29 )، والكلّ حبيبه! ما لم يُقل ليس غير موجود ! يُستدلّ عليه! أُخذتُ، مرّة، واثنتين، بخبَرَين، أولهما عن القدّيس غريغوريوس الكبير، في الغرب، كيف إنّه صام وصلّى من أجل أحد أباطرة روما الأقدمين، حتّى منّ الرّبّ الإله عليه (أي على القدّيس غريغوريوس)، بخلاصه (أي بخلاص هذا الأمبراطور). وثانيهما هو عن القدّيس بائيسيوس الكبير الّذي لمحبّته وتواضعه وصلاته، منّ الرّبّ الإله عليه، بخلاص تلميذ هلك بزناه، وجاء شيخُه إلى القدّيس بائيسيوس مستجيرًا! منطقُ محبّة الله يضرب كلّ منطق إن عرفنا وأصررنا أن نستجير بالله، عند الله، بمحبّة الله! تبارك اسمه تعالى! إنّه التّوّاب المجير في كلّ حال! بطرق أنت تعلمها، ربّاه، ارحمني وخلِّصني، أنا عبدك غير المستحقّ، وارحم وخلِّص عالمك!
عائلة الثّالوث القدّوس – دوما – لبنان
نقاط على الحروف